لعبت موضوعة العزلة والاعتكاف وطرائق تقديمها دوراً مهماً في أشكال التعبير الأدبي والفني، على اختلاف أزمنته وأمكنته. ولعل ما اتخذته العزلة، وما ينسلُّ منها من دلالات، من نبر خاص في أدب العارفين والصوفية على وجه التحديد، حيث اختبأت في كلِّ زاوية من زواي
لعبت موضوعة العزلة والاعتكاف وطرائق تقديمها دوراً مهماً في أشكال التعبير الأدبي والفني، على اختلاف أزمنته وأمكنته. ولعل ما اتخذته العزلة، وما ينسلُّ منها من دلالات، من نبر خاص في أدب العارفين والصوفية على وجه التحديد، حيث اختبأت في كلِّ زاوية من زواياه، جعلها علامة مميزة في خط سير هذا الشكل التعبيري، فضلاً عمَّا سواه مما ظهر فيه ميلٌ أو حرص على اختفاء الذات وراء مصدّات تلبّي حاجتها في استجلاء ظاهرة الوجود وأنساق التعايش معه. ولطالما آزر الاغتراب بالمؤتلف والمختلف من موازينه الفكرية والفنية موضوعة العزلة ،فكان صنوها ثابت الموقع على مشهد لونٍ من الشعر، يلوذ بهذا المنهج: تارة ليسوقه بوصفه المكان الأمثل لوقوف الشاعر وتأملاته غير المشوشة للوجود، وطوراً ليسم الشعر بميسمٍ فكري يمنحه فرادة وصبغة ذات حيوية وعمق لا تتوفر لسواه في إمكانات حيازة المعنى.
وليس من ريب في أنَّ نظرة متأنية في مدونة الشعر العراقي الحديث تهدي إلى القول بأن للشاعر محمود البريكان دوراً ريادياً في تحويل العزلة من نظام حياتي إلى موقف ثقافي ذي إيقاع خاص يرمز لمحنة الإنسان في الوجود، ثمَّ صياغة ما تفضي إليه طبقاتها من خلاصات لغة شعرية لا تبتعد في جوهرها عمّا تمرأتْ به تلك العزلة من صور.
وأيّاً كان من أمر العزلة وما يلبسها في المحيط الشعري العراقي، فإنَّ مرمانا في هذه القراءة يتحدَّد وحسب بمحاولة الإمساك بأطراف هذا الموقف وتجلياته في ما قدّمه الشاعر قحطان جاسم* في ديوانه "تجليات العزلة"، الصادر حديثاً. إنَّ من يتصفح هذا الديوان سيكتشف، للوهلة الأولى وقبل أن يتوخَّى خلق الوشائج مع النصوص، أنه خال من العنوانات الداخلية، فقد قدَّم الشاعر فيه مراتب تجلياته نصاً واحداً متكاملاً جعل كلّ مقطعٍ من مقاطعه يتموضع بمقام تشده لما يعقبه من مقامات قرينة أو إسناد على محور المعنى الظاهر والمضمر لذلك التجلَّي. ولعل لهذه الخاصية الأسلوبية ما ينسجم والهاجس الفلسفي الشامل الذي هيمن على الشاعر وهو يقذف بكل جزئية من جزئيات عالمه ومثاقفاته الشعرية بين يدي تلك العزلة، فهي في النص سيدة المواقف، وحسبها أن لم يتسن لأحدٍ أن سبر أغوارها، ولكنها لا تتوارى من أمام نواظر الشاعر في رحلة البحث عن وجوهها واستشعار طقوسها عمقاً وشمولاً يستنطق جذوتها:
أبدأ سيرتي اليومية
أحبو في رحم البذرة بقلقِ الصحو الممتنعِ حيثُ الكون يغادرُ أوتادَه
وحدأة الحلم تلوّحُ لي بحزمٍ في تلافيف النقاء المبصر-لغتي،
أفتشُ عن زهرة عبادِ شمسٍ مهجورة وافتراضات المعاني.
لو رجعنا للإحالات الدلالية لمفردة التجلّي لتبيَّنت لنا مفارقة شعرية تمكن الشاعر فيها من الالتفاف على المفهوم الإيجابي لإشارات الفعل تجلّى وما يشيعهُ لبّهُ من وضوح وحميمية وألفة (تجلَّت الأزهار/ تفتحت، تجلَّت العروس/ تزيَّنت، تجلّت الشمس/ انكشفت، وغير ذلك من معاني الظهور والبيان). فقد قننَّ دلالة فعل التجلّي، سلبها وضوحها وبساطتها ودأب لمنحها صورة تنزع لتلمس سبل النفاذ لآفاق العزلة وللسكون والصمت واستبطان ما تصطبغ به ديمومة الصراع مع الإحساس بالعزلة، وما يتوالى فيه من تداعيات وانثيالات تصب في خدمة صورة مركزية استكمل فيها محطات العزلة باتجاه يتصاعد نحو بلوغ ذروتها.
واعتباراً بما سبقت الإشارة إليه فإنَّ نصوص جاسم قد توضع تحت ما اصطُلِحَ عليه مجازاً "قصيدة المعنى" وهو اصطلاح لا يجد الباحث غضاضة في الإعلان عن كونه يفتقد الكثير من الدقة والتحديد، لأن الثابت الجوهري في القصيدة على العموم هو أنَّها محيط لساني لإنتاج المعنى، وليس لها أن تبلغ مداها الشعري إذا ما كانت نظاماً إشارياً اعتباطياً فارغ المعنى. ولسنا هنا في وارد بسط القول لمعالجة ما يسود الدرس النقدي من أزمة في دقة البنيات الاصطلاحية، بقدر ما أردنا التنويه لما هيمن على نصوص جاسم من مسار شعري فكري يعيد بناء المواقف الوجودية بأسلوب يمازج فيه بين العزلة كنظرة فلسفية وكيانٍ متأصل عميقاً في الذات الإنسانية، وطبيعة الإحساس بها، ثمَّ كيفية استنهاضها شعرياً وتجلّيها بوصفها مركز الدلالة ومحيطها المفسِّر لسعة مضامين هذه المواقف فيما لو تم استدراجها لدائرة الضوء. لم يبد الشاعر في الديوان مفكراً مؤصلاً ومفصلاً لتقديم عوالم الفلسفة بحس شعري، ولم ينشغل بلانهائية طبقات معنى العزلة ،فقد وضع لها جفرها السرّي الخاص به كراءٍ، ومعمارها الدلالي الراصد والمنقب في مطاويها كشعور تتحدّرُ منه مفاصل اللحظة الشعرية:
حين يذهبُ الآخرون إلى النوم
أو إلى لعبةٍ شبيهة
يرممُ بتؤدةٍ صارمةٍ الألمَ
يشذّبُ أسرارَه كالأزهار
ويبدأ كعادتهِ حفلةَ العزلةِ
حيثُ لا بابَ للخديعةِ
أو الهروب -
الوليمةُ لهُ وحده!
إن أول ما يمكن للمتلقي ملاحظته على المقطع السابق وعلى نصوص الديوان برمَّته هو أنَّه يميط اللثام عن بنية لغوية لا يداخلها ترهلٌ ولا تكتنفها ميوعة. بنية تعتمد الاختصار والتكثيف والابتعاد عن كلِّ أشكال الزخارف البلاغية والاحتيالات اللغوية. تندرج داخلها محصلة علاقة تقابلية بين العزلة، بوصفها موقفاً من الوجود يتغلغل في الذات الفاعلة داخل النصوص ويقع تحت سيطرتها، وركائز هذا الموقف أو تجلياته الأساسية، التي يستهدفها المحتوى الجمالي للديوان. وليس من الوارد في قاموس جاسم التعامل مع العزلة كمختبر للَّغة، فهي لديه ليست عالماً مخترعاً لا وجود له خارج النص الشعري، ولذا نجده يحرص على مزجها بعناصر الحياة المعيشة، وقدَّم عبر هذا التمازج صورة شعرية ثرية قادرة على الاقتراب كثيراً من وضع فلسفة خاصة بمظاهر تلك العزلة، بيدَ أنَّه يفسرها شعرياً وليس عقلياً، فيقلب وحشتها ولحظات كآبتها أزمنة رحبة تحتفل فيها اللغة بجمالها وروعة إحالاتها:
نزقي الوحيدُ
أنْ ألمسَ بحذرٍ بكارةَ الحلمِ
أشاجرَ الأزمنةَ الأرملة
أُلملِمَ وهني وحيداً
أُبحرَ في هياجي:
العزلةُ طريقي إلى الصحوِ الأخيرِ!
يذكرك المعمار الفني لبعض نصوص الديوان بشيء من البريكان ولاسيما في قضية التركيز على الجمل الاسمية وما لها من قابلية لقطع المعنى وتحديده بصورة قارة، وهو أسلوب تقليدي لتجسيد الزمن وإسقاط الحاضر فيه ـ المفترض أن يكون متحركاً ـ ضحية لثبات اللحظة الماضي. إلا أنَّ لكل تجربة شعرية خصوصيتها ونسيجها الفني والبلاغي الذي تحتفل به أو تحتويه. وإذا فحصنا طبيعة التركيب البنائي لنصوص جاسم فسنواجه نسيجاً من دلالات مرجأة وجمل تأخذ بأعناق بعضها فيتواصل فيها تشييد المعنى من دون فواصل أو تقييدات كعلامات الوقف والتنصيص على اختلاف موجبات وجودها. وتلك صياغة تسعى للتوافق والانسجام مع ظاهرة تدفّق العزلة بوصفها وحدة شعورية دالة على زخم نفسي لا يجب تمزيقه تحت ضغط التجريب اللغوي بصرف النظر عن أشكاله:
هكذا ستقرأ نشيدَكَ الأخيرَ بلا مزاميرَ أو منشدينَ
وأنتَ ترتهنُ إلى صخرة الذاكرة تفتّشُ عن خيطِ نورٍ
نساهُ في غفلةٍ أحدُ الأصدقاء وهو يجرجرُ أنفاسَهُ الأخيرةَ نحوَ الموت
تعوّلُ أن يقودكَ لاكتشاف الخطيئة والذنوب
مدائحُ الشرفاتِ، هتافاتُ العوامِ وأغاني الكارثةِ
للتو بيقين لا حدودَ لهُ أعلنَّ الولاءَ إليك
لكنني حيثُ لم أكن راغباً في التخلي عن إغفاءةٍ شاردةٍ
أعلنتُ احتجاجي أنكَ وحدكَ لي
وحري بنا أن نشير إلى تفاعل مقاطع الديوان في ما بينها في نداء الذاكرة والكشف عمّا مرّت به من محن وكروب، بما يشعر المتلقي وكأن نصوصاً خفية تشتغل في خلفية النص. تستمد طاقتها الشعرية أحياناً بتضافرها مع صياغات تقترب من الحقيقة اليومية للعزلة وإعادة تأملها على أساس يكرّس التصاقها بالحياة إذ ربطت عراها بصور تحكي الواقع، تتباشر معه وتحاكيه من دون فواصل. ولذا بدت شبه خالية من احتشاد الرموز والأساطير، وكانت قادرة على خلق تصورات مفهومة عن مشاعر غاية في الغموض والإبهام. ولعل المغري في هذا الأسلوب هو كونه يتفرَّد بفسح المجال أمام المتلقي للإحاطة بالدلالات المضاعفة للعزلة:
الطبولُ ومارشاتُ الحربِ النياشينُ المعطوبةُ على صدورِ المخصيين،
التراثُ المزدهرُ في الظلمة، النواحُ ومواكبُ المهزلة،
أليست تلكَ هي تأريخ بلادٍ قادتني لعتباتٍ مهجورةٍ
وللعبةٍ رخيصةٍ تلاحقنا كل يوم؟
للعزلة إذاً نسقها الظاهر، الذي منحه الشاعر إطاراً مرجعياً، ولم يكن تكرارها كبنية لغوية فجّاً ومملاً، وإنما كانت اللغة حاضنة العزلة وصورتها التي يتعانق فيها على امتداد الديوان مداران للفهم يتمثلان باتجاهين متوازيين: الأوّل شعري محض يكرسه تعلّق صورة العزلة بالمفارقة الشعرية التي تلهب النص بما يتجاوز دائرة العزلة لينزاح عنها كليَّاً مبلوراً نسقاً من علامات واستعارات تكرِّس ما للعزلة من آفاق. أمّا الثاني فيميل لأسلوب سردي يعكس سلسلة من مشاهد حدثت في أزمنة مضت، يدعو المتلقي للغور في تأملها، ولا يتغافل عن شدِّها بضروب اللحظة الراهنة، على إنَّه لا يركز على تواريخ أو وقائع:
ممتلكاتي:
منحدراتُ الخوفِ
قواربُ الموتِ
رؤيا جنودٍ مخذولين
تدحرجُ التاجِ وفراشاتُ الانتحار
محنةٌ سأخبئها كلّها في ثيابي لئلا توقظَ خيولَك
فتهربُ حيثُ فرصة الضلالِ كهوف اللامبالاة
خطر اللامعنى
أنا سكرانٌ أريدُ أنْ أمسكَ بجمرةِ الانفعالِ
سأحمي نفسي من زلازلِ الضيم،
الغابةُ موحشةُ حينَ لا تكونين معي
إلى أين سأذهبُ وكلُّ اتجاهات اللحظة حرائقٌ؟
إنَّ أهم ما يمكن تحصيله من قراءة هذا الديوان هو أنَّه يستمد نشاطه الشعري وطاقته التصويرية من التجربة الإنسانية ،إذ يغور في الأعمق من علاماتها وهي العزلة. يتَّخذها بؤرة مركزية تتمحور حولها كل ومضة شعرية، فيجعل المتلقي على قناعة بأنّه إزاء علاقة مع عمل متشابك تُقتنص فيه أفكارٌ ذات مساند عقلية لتقدّمَ بصور شعرية تتجلى العزلة فيها بقوة وثراء يتأتى من جوهرها ذي الطبيعة المناورة. فالشاعر يستولد طاقات العزلة، يحتجُّ عليها، يحتفي بها، يعلن الولاء لها ويتجاهل ما يقع تحت وطأتها من هزائم، يرمِّزها، يداخل بين حاضرها الناصع المرئي وماضيها الغامض غير المرئي. علاوة على ما تقدَّم نراه يشيّد عالمه الروحي ومخيلته الشعرية على دعامة لغوية ذات تقنية مرنة في منظومتها الصوتية وتشكيلاتها السيموطيقية. لغة لا إفراط فيها في تكريس صور الذات، تدس العمق الشعري في الجملة ثمَّ تفتحه على طبقات متعددة من الفهم من دون أن تغطس بشيء مما أفرزته تيارات الحداثة، أو ما حشر داخلها قسراً من رطانات لا علاقة لها بدائرة الإبداع. وصفوة القول هي إنَّ اختلاط حابل النصوص الحديثة، ولاسيما الواقع منها تحت مسمَّى قصيدة النثر، بنابل المشهد المريع للمتطفلين على فنون وطرائق الكتابة لم يكن ليعني غياب الشعر ذي القيمة الفنية أو تقويض وجوده والتباس حضوره كأحد أهم مظاهر الثقافة العربية، لقارئ "تجليات العزلة" ما سينعطف به نحو هذا التصور حين يتأمل لغتها وفضاءاتها من زاوية شعرية ستضعه في نكهة مختلفة عن عشرات الإصدارات التي تمرُّ من دون أن يلتفت إليها أحد.
* تجليات العزلة، مجموعة شعرية، المغرب العربي مطابع الرباط، ط1، 2013.