ترى ما هي مشاعر مايكل أنجلو وهو يهم بالشروع في رسم أعظم أعماله الجدارية على الإطلاق وواحدة من هبات ونعم الفن علينا على مرّ العصور والأزمنة ، وأقصد هنا رسمه لسقف كنيسة كابيلا سيستينا في الفاتيكان . أرى معجزة أمامي وأنا أتخيل رجلاً واحداً يتصدى لمهمة كهذه ! كيف يسيطر إنسان واحد على عمل فني بطول 41 متراً وعرض 13 متراً وهو يقف على ارتفاع 20 متراً مزهواً بموهبته وفخوراً بعمله ؟ ليقضي أربع سنوات متواصلة يعمل على إنجاز هذا المشروع ( 1508 – 1512 ) الذي استلهم موضوعه من خلق الإنسان ونزوله من الجنة ، حيث يظهر في العمل أكثر من 300 شخصية ومفردة وتكوين ، وقام بتقسيمه إلى ثلاثة أقسام رئيسية هي ، خلق الله للأرض وخلقه لآدم وحواء ونزولهما إلى الأرض ، ثم الإنسان كما رآه النبي نوح . ومع كل خطوة من خطواتي وسط الفاتيكان ، بين الجموع الغفيرة التي تتقدم ببطء لمشاهدة هذه الأعجوبة وأنا أفكر بهذا العمل العظيم . دخلت الكنيسة التي نالت شهرة كبيرة بسبب الرسوم التي على سقفها وفوق جدرانها ، هناك حيث الزوار يصورون الأعمال خلسة وبسرعة خوفاً من الحراس المتشددين الذين يملأون المكان ويمنعون ليس التصوير فقط ، بل الحديث بصوت عالٍ أيضاً ، وكأننا في مكان مقدس ، ونحن بالفعل كذلك . كان أنجلو وقتها في بداية الثلاثينات من عمره ، وهو لم يرسم هذا العمل وهو مستلقٍ على ظهره كما هو شائع في بعض حكايات تاريخ الفن ، بل رسمه كله وهو واقف فوق سقالة ويضع فوق قبعته فانوس يضاء بالشموع .
في تسعينات القرن العشرين وضعت محطة التلفزيون اليابانية ( نيبون ) ما يقارب 20 مليون دولار على طاولة الفاتيكان لأجل تنظيف السقف الذي يحتوي على هذا العمل ، شرط أن تقوم بتصوير عملية التنظيف بأفلام وثائقية وأن تستمر بعدها بتصور كل تفاصيل العمل لمدة ثلاث سنوات . رحب الفاتيكان بهذا العرض الرائع وابتدأ فريق العمل . وهنا بدأت المفاجأة التي لم يتوقعها أحد ، بعد أن أزيل دخان الشموع الممزوج بالغبار من على السقف . لقد ظهرت ألوان العمل الحقيقية الناصعة التي نراها اليوم بعد أن غطاها الغبار قرونا طويلة ، وبدا العمل بهياً صافياً ، واتضحت كل تفاصيل الموضوع . عندها قال رئيس المرممين أو المنظفين (فابريزيو مانشينيلي ) كلمته الشهيرة ( عملية التنظيف هذه تشبه في أهميتها أول رحلة للإنسان نحو القمر ) ، وبالفعل بعد أن اتضحت النتائج النهائية لتلك العملية ، وقف تاريخ الفن كله على قدميه .
لكن حكاية العبقري مايكل أنجلو لم تنته بعد ، فبعد مرور 30 عاماً على إنجاز هذا السقف ، أوكل إليه البابا بولس الثالث مهمة رسم فريسكو كبير على الجدار الرئيسي لنفس الكنيسة ، وابتدأ فناننا العمل بنفس الحماسة وقد تجاوز الستين من العمر . ورغم براعة وقوة وجمال إنجاز هذه الجدارية المدهشة التي أضحت واحدة من أهم أعماله التي تتباهى بها ايطاليا كلها في ما بعد ، إلا أن الكنيسة كان لها رأي آخر ، بسبب ( الفضيحة ) التي أثارها حين رسم الكثير من الشخصيات المقدسة وهي عارية تماماً، ومنها شخصية المسيح نفسه . وهكذا أوكلت الكنيسة في ما بعد مهمة جديدة لأحد تلاميذ أنجلو ( دانييل دي فولتيرا ) الذي رسم قطعا من القماش غطى بها الأجساد العارية . لكن المسألة لم تنته هنا أيضاً مهما تقادم عليها الزمن . فبعد مرور ( 453 ) سنة ، أي أربعة قرون ونصف ، سمحت الكنيسة من جديد بإزالة مجموعة كبيرة من قطع القماش المرسومة على الأجزاء العارية . وهكذا يظل مايكل أنجلو يحيا كل مرة من جديد كما هي أعماله الخالدة.
عينان تواجهان السقف
[post-views]
نشر في: 17 يناير, 2014: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...