الراحل/ ابراهيم الوائلي كنا في فصل الربيع من عام 1937م اي قبل نصف قرن بلا زيادة ولا نقصان وكنت اذ ذاك في النجف بين ندوة (الهاتف) وجمعيتي، الرابطة و منتدى النشر لااكاد افارق احداها الا حين ازور صديقا او قريبا وفي يوم من ايام ذلك الفصل وفد صديق من البصرة فمكث بضعة ايام يشاركني في النوم واليقظة
ثم عرض علي ان نزور بغداد ولم اكن قد رأيتها عدا محطة القطار في الجانب الغربي حيث يذهب بنا القطار انا ووالدي عليه الرحمة من هذه المحطة الى مدينة الكاظمية، فقد كان القطار الاتي من البصرة يصل الى هذه المدينة المقدسة وقلت لصاحبي: اما الان فلا بأس من زيارة بغداد عاصمة العراق والتطواف في شارع الرشيد الذي نسمع به، واقلتنا السيارة من النجف الى كربلاء ولم يكن الطريق الا رمالا غير معبدة ثم اقلتنا سيارة اخرى من كربلاء الى بغداد بعد اداء الزيارة لاضرحة الشهداء ومن (علاوي الحلة) في جانب الكرخ انطلقنا نمشي على اقدامنا الى شارع الرشيد حيث ينتظرنا صديق اخر في احد الفنادق، ولم يكن معي سوى حقيبة فيها بعض الثياب والكتب. وعبرنا على جسر الخشب الذي يصل صالحية الكرخ بجانب الرصافة ولم نجد مشقة في عبوره اذ كنا على وفرة من الشباب وكان الجسر غير مثقل بالسيارات او المارة فقد كانت السيارات انذاك لاتتجاوز بضع مئات في بغداد، ولم يكن سكان العاصمة قد بلغوا المليون، واستقربنا المكان في فندق يطل على شارع الرشيد قرب السيد سلطان علي ولم يكن يزعجنا شيء في الفندق او الشارع فربما كانت ابواق السيارات القليلة التي تمر بين حين واخر اشبه شيء بمعازف تطلق اصواتها في الفضاء بلا رتابة ولا تنسيق. كان مضيفنا – وهو من اغنياء البصرة- قد اصطحب سيارته معه وكان سائقها بصريا من اولئك السواق المعروفين بدماثة الخلق فلم يبخل علينا بالتجول هنا وهناك حين كانت بغداد انذاك لاتتجاوز شارع الرشيد طولا في جانب الرصافة ولم يكن الكرخ باكبر شأنا من الرصافة، بل كان دونها في السعة والاسواق والتجارة ودوائر الدولة، وكانت نهاية شارع الرشيد عند الباب الشرقي هي نهاية مدينة بغداد القديمة فما ان تركنا الباب الشرقي وتجاوزنا تمثال عبدالمحسن السعدون في مكانه القديم قليلا حتى وقفت بنا السيارة عند ساقية مترعة بالماء وهو ينصب فيها من دجلة وعلى جانبيها مزارع الخس واستمتعنا بجلسة طيبة حول الساقية وبأكلة خس لذيذة وكان ثمن الرأس الواحد اربعة افلاس. لم يكن في بغداد انذاك سوى جسرين من الخشب احدهما يصل الكرخ بشارع المتنبي في جانب الرصافة اذ ينتهي عند المحاكم، اما الثاني فيصل صالحية الكرخ بالرصافة مثل الثابت الان، وجسر ثالث مثلهما يصل الاعظمية بالكاظمية. وكانت الشركات الانكليزية قد شرعت ببناء الجسرين الثابتين في بغداد ليحلا في محلي القديمين، وطفنا في الشوارع القليلة وكان علينا او على مضيفنا دفع عشرة فلوس او اكثر كلما عبرت السيارة على جسر وقد كان هذا المقدار يسمى (رسم العبور) على السيارات وفارقت بغداد بعد يومين او ثلاثة ثم عدت اليها في صيف سنة 1940م مستجيبا لدعوة من دار الاذاعة ثم عدت بعد شهر من السنة نفسها ولم اجد ما يستحق الذكر سوى الجسرين الثابتين وقد استقرا على ذكرى جسري الخشب، ثم استقر بي المطاف في بغداد ابتداء من خريف 1940م. كانت المقاهي في بغداد اكثر شيء يثير الانتباه وقريب منها المطاعم الكبيرة والصغيرة وكانت عشرة فلوس تكفي ثمن غداء او عشاء في مطاعم الكرخ الصغيرة اذ لم تكن الحرب قد اثرت في السوق الا في سنة 1942 ولم يكن ثمن علبة السجاير يتجاوز ثمانية فلوس او عشرة وكانت اجرة السرير في فندق الملوك لاتتجاوز خمسة وعشرين فلسا لليلة الواحدة وكان هذا الفندق يطل على دجلة في جانب الكرخ وهو من اجمل الفنادق ذوات الجو الشاعري ولي فيه مايشغل حيزا من مذكرات العمر. ولم تكن في بغداد مبان عالية انذاك ولعل اعلى مبنى لايتجاز ثلاثة طوابق وكان من هذا النوع على قلته جدا فندق يطل على دجلة عند ساحة الشهداء من جانب الكرخ وما يزال على حاله وقد اتخذ سطح هذا الفندق في ثورة مايس من سنة 1941م مقرا لثلة من الجنود كان عليهم مقاومة الطائرات وكان علينا الا نبارح الساحة لنؤدي ماعلينا من حراسة اولئك الجنود وهم فوق السطح حول مدافعهم يرصدون طائرات الانكليز. لقد كنا نبغض هؤلاء المستعمرين لسببين اولهما الاحتلال الذي كان جاثما على صدر العراق وثانيهما بيعهم فلسطين على الصهاينة، ولذينك السببين انفجرت ثورة مايس واستشهد فيها الكثير من ابناء العراق. وتعود بي الذاكرة الى تلك الفتاة التي كانت تسير في شارع الرشيد وقد غطت وجهها بالبرقع الاسود شأن معظم النساء في بغدد ولاسيما الطالبات في حين ان احدى المعلمات كانت تؤثر السفور على الحجاب واصبحها كل يوم على جسر الكرخ وانا ذاهب الى الثانوية الاهلية عند الباب الشرقي. مازلت اذكر ازدحامنا على شباك التذاكر في احدى دور (السينما) لنشاهد (حرب الاساطيل) كانت اجرة الدخول عشرين فلسا، وازدحمنا مرة على باب الدار من دور السينما الصيفية في الباب الشرقي وتسمى (سينما غازي) لمشاهدة فلم (السابحات الفاتنات) وهو رق ملون وقد تزاحم معنا جنود الانكليز. وربما استخفت بنا خطواتنا فانتجعنا ملهى نسمع فيه ونرى وقد يكون (ملهى المعرض) في ب
بغداد.. بحيرات من النور!
نشر في: 15 نوفمبر, 2009: 03:42 م