1
يكتب الفنان التشكيلي والشاعر ( يحيى الشيخ ) كتاب سيرته الذي أسماه (سيرة الرماد ) كاعتراف مضنٍ واستعادة للمصادفات التي تصنعنا ، يقر يحيى بأننا لن نكون أسبابا أبدا فنحن نتائج في ولادتنا وفي مماتنا ،ويقدم لنا كتابه منسوجا بحدسية روحانية و رؤية بصرية حاذقة ومعرفة أنثروبولوجية ثرية اغتنت من حياة الريف العراقي وتكاملت في مزاج التمدن واكتشاف الذات والأمكنة .ويكتب يحيى باستغراق شعري معززٍ بخبرات صاغها كما تصاغ الفضة وترصع بشذرات ثمينة شأنه شأن والده الصائغ (عبد الشيخ) .
يقلب يحيى سيرته فإذا هي سيرة ذات محايدة ( تعاين ذاتها القديمة بعدالة وترمم ذاكرة بُترت أطرافها ونجت بما تبقى ) لتتشكل سيرة خروجه من يقينات أهله وطقوسهم وخروجه إلى متاهة العالم وأوهام انتظاره لوعد ضوئي لا يجيء ، فثمة انتظارات غامضة و قلق مستعر و أسئلة حارقة وهوية ذاتٍ تراودها الرِيـَب لتصبح سيرة الرماد حكاية مكثفة وحزينة لبلد تفاقمت حرائقه وما تبقى منه سوى الدخان وأشباح الأمكنة وأشخاص يزهون بفشلهم وحرائقهم المستديمة ( لقد أحرقت أيامي ولم يعد ما ينيرني غير قلقي ) ووسط صحراء الرماد الهائلة كانت تنبض طبيعة حية وكائنات لا تكف عن ابتداع كينونات جديدة لها علمت الصبي يحيى ان يراكم كينوناته بدءاً من بيت الطفولة الريفي الذي كان موهوبا للطبيعة وكأنه جزء منها مشتبك هو وأناسه بمصير كائناتها وأنهارها وطوفاناتها.
يختزل الكتاب دهورا وأحداثا في ذاكرة رجل راءِ وحالم ليغدو كتابا مؤنسا وشجيا نشارك فيه الصبي والفتى والرجل لحظاته الهاربة وهو يستذكر الألم والقسوة والجمال والمباهج والمخاوف حتى ليصبح الكتاب كتاب ذاكرة جمعية يدون تحولاتنا وأحلامنا وحرائقنا ورمادنا وفشلنا كعراقيين في الدفاع عن أحلامنا الشخصية و فرادتنا بوجه أعاصير السياسة وبراغماتية الأحزاب وشهوات القتلة.
أعرف يحيى الصديق القديم المستعاد في سيرته - منذ سنوات بعيدة يوم كنا أوائل السبعينات نلتقي في معارض الرسم المبهجة و لقاءات الأدب واحتفالات الحياة صحبة جمع من الأصدقاء والصديقات في بيتنا غالبا أو في بيوتهم أو في جمعية التشكيليين العراقيين ، و كنت أعرف بعض تفاصيل من حياة يحيى وإبداعه الفني وإنسانيته ونزاهته ،لذا قرأت الكتاب بشغف في ليلة واحدة لأن أعادني لأزمنة رخية عشناها وأزمنة خراب واعتقالات وفصل من الوظائف والكليات طالتنا جميعا ، وعندما انتهيت منه تيقنت انه يعكس سيرة معظم الحالمين الخاسرين من ذوي النزاهة والموهبة في مواجهة عالم شرس ومعادٍ.
يكتب يحيى ( لا أتوقع من ذاكرتي ما هو خارق ولا اكتشافات ما وراء العمر تغير موقفي ، أنا أعرفها كما أعرف أن الفشل نصيبي لكنه فشلي أنا، رمادي ولن أمسحه عن جبيني ، إنه مادتي الخام التي أقف بصددها) . و بنبرة حنين غامض يسرد حكاية ولادته تتقدمه هيبة طقوس صابئية ( لابن من عِرق كهنوتي نقي لا مراء فيه ، قادم على رأس أربع بنات وأم فقدت ولدها البكر ، مهددة بزوجة ثانية إن لم تنجب ولدا آخر بديلا ، فكنت البديل المبالغ في حقيقته ) ،وكان الصبي البديل الحي يمتلئ زهوا عندما ينادونه باسمه ويطرب وتتلقفه أحضان الشقيقات والأم والعمة ،فهو المحبوب المبارك لأنه سَميّ النبي يحيى وهو البديل المنتظر المولود في أقدس أيام الصابئة المندائيين - أيام الخلق، محاطاً بأساطير موغلة في القدم وسنن صارمة متعنتة لا تقبل الاجتهاد والنقض.
يتبع
كتابة السيرة: سيرة الرماد ليحيى الشيخ سفر الخروج على السنن والمصائر
[post-views]
نشر في: 18 يناير, 2014: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...