شكرني قارئ عزيز، لأنني "انتشلته" من الواقع المرير الذي نعيشه، باستذكار مرحلة أفلام كاوبوي مثيرة كانت تعرض في سينمات روكسي والسندباد واطلس التي أغلقت أبوابها الآن، وصارت مثل كل الأشياء الجميلة إطلالاً ليس بمقدورنا أن نبكي عليها، خشية بطلان وضوء بعض قا
شكرني قارئ عزيز، لأنني "انتشلته" من الواقع المرير الذي نعيشه، باستذكار مرحلة أفلام كاوبوي مثيرة كانت تعرض في سينمات روكسي والسندباد واطلس التي أغلقت أبوابها الآن، وصارت مثل كل الأشياء الجميلة إطلالاً ليس بمقدورنا أن نبكي عليها، خشية بطلان وضوء بعض قادة دولتنا الفاشلة بامتياز!
وفات الصديق ان الواقع العراقي بمشاهده اليومية، التراجيدية والكوميدية، اصبح هو "سينما اكشن" مفتوحة للمشاهدين المغامرين الذين لا يخشون ان يكونوا ضحايا افلام "اكشن الواقع" بعروض مفخخات الإرهابيين والأحزمة الناسفة، ومطاردات قوات سوات وخشونة أفراد سيطرات "الكاشف المسخرة".
ومن دون مبالغة أو تجن، فان العراق على امتداده بات مسرحاً لا يحتاج الى تحضير ديكورات، ولا مؤثرات صوتية، ولا ممثلين أبطال او ثانويين او كورس، ولا حتى لممثلين "بدائل" للمشاهد والعروض الخطيرة. فكل ذلك مُمَهد ومتوفر في غاية الاتقان على مسرح الحياة اليومية وعلى امتداد العراق الاسير. تصوير افلام كوميدية وتراجيدية على مدار الساعة لا يكلف منتج فيلم الاكشن الراغب بنقل واقعنا لعرضه في دور السينما في البلدان الاخرى، سوى كاميرا فيديوية عادية كالتي يستعملها الهواة، وقد يكفيه جهاز هاتف نقّال متطور يحتوي على كاميرا.
ولكي لا تذهب "سدى" تضحيات شهدائنا وجرحانا، والدمار الذي يحل بالبيوت والمباني والاحياء والجسور والبنى التحتية، نتيجة الاعمال الاجرامية التي يرتكبها الارهابيون التكفيريون من فضلات البشر، فعلى الحكومة ان تشجع شركات الانتاج السينمائي والتلفزيوني على "الاستفادة" من مشاهد القتل اليومي والتفجيرات والتفخيخات واللقطات الفريدة التي لا نظير لها، ولا تستطيع محاكاتها اكبر الشركات، مهما خصصت من ميزانيات ضخمة، اذ تعمد في مثل هذه الحالات الضرورية إلى "تصنيع" مشاهد مفبركة لا ترقى الى ما تستطيع الحصول عليه كل يوم في بغداد والمدن الأخرى.
ان اي مشهد للقتل او الانتحار او الحرائق او التفجيرات الحية او ضرب الاحياء بالصواريخ او الخطف والاغتيال بالكواتم، او تطويق المظاهرات بآلاف المسلحين من قوات سوات، واثارة الغبار عليهم من خلال طائرات تحلق فوق رؤوسهم على مستوى منخفض، في عملية تحرمها الدول المحترمة لانها تشكل خطراً على المواطنين والممتلكات بسبب احتمال سقوطها... كل هذه المشاهد مباحة تتكرر على مدار الساعة، وليس على المصور السينمائي والتلفزيوني سوى أخذ اذن خاص من مكتب رئيس مجلس الوزراء والمقربين من الحاشية الحاكمة ليوفر بذلك مادة خام صالحة لانتاج كل انواع افلام الاكشن، بل اكثر من ذلك تأمين ارشيف حي يمكن استخدام مشاهده في الأفلام الحربية، والكاوبوي، وافلام رامبو ورنكو معاصرة.
ان كل مشهد مماثل لا يستغرق في الشريط السينمائي او المسلسل التلفزيوني بضع ثوانٍ، ولا يزيد في الاغلب على بضع دقائق متقطعة، يكلف الشركات المنتجة ملايين الدولارات وازيد في حالات خاصة حين تحتاج اللقطة الى مؤثرات صوتية وديكورات بالغة الضخامة. وتستطيع الحكومة تقديم عروض وتسهيلات مغرية للشركات المذكورة، من خلال ترتيب مشاهد حسب الحاجة، باعتماد ما لدى الاجهزة الامنية والمخابراتية من معطيات ومعلومات عن تحركات الارهابيين واحتمالات "بالغة الدقة" حول توقيتات تفجير او تفخيخ او حزام ناسف. وكذلك سرعة القاء القبض على المتورطين من الانتحاريين بعد تنفيذ عمليات الانتحار بساعات!
لقد استغربت كيف لم ينتبه مكتب السيد المالكي، ومساعدوه، الى الاهمية البالغة للاعتراف الذي ادلى به "داعشي" زنديق، وتقييمه لحكمة القيادة العراقية التي قامت بـ"ضربة استباقية" في الانبار، بفضها الاعتصام وملاحقتها عصابات داعش والقاعدة، اذ لولا "بصيرة" القادة وعلى رأسهم القائد العام للقوات المسلحة، ومباغتة المعتصمين، لاستطاعت داعش اعلان المنطقة الغربية امارة اسلامية، ومدت خطوط المواصلات العسكرية للزحف على كربلاء والنجف الاشرف، كما ورد في تصريحات السيد المالكي لوكالة دولية! كيف لم ينتبه هؤلاء الى ان عرض هذا الاعتراف على اي قناة أميركية، بل على قناة الجزيرة، من شأنه تحقيق مردود مالي يتجاوز عشرات الملايين من الدولارات؟
وفي السياق ذاته يرى قارئ آخر، ان اسقاطات افلام الكاوبوي، مثل: رنكو لا يتفاهم، او بطولات رامبو، لا تتناسب مع حجم المأساة التي يضيع في اتونها الشعب العراقي. فالمتابع الاجنبي بل والعربي لما آلت اليه الاوضاع في بلدنا، دون ان يكون على دراية كافية بحجم المساحة المظلمة فيه، قد يقع ضحية التباس، ويتبادر الى ذهنه، كما لو ان الامر لا يتجاوز حدود فيلم كاوبوي، حيث يتساقط في كل واقعة فيلمية، على وقع مسدسات المتعاركين والبطل، بضعة افراد او بضعة عشرات من القتلى الممددين في الشارع او المتساقطين من السطوح ومن فوق الخيول المتراكضة. مما سيقلل في نظره من خطورة ما نحن فيه، ويضعف بالتالي من تعاطفه مع شعبنا، وتحركه لتعبئة الرأي العام لفضح المتواطئين من الطرفين على سفك دمائنا وتخريب ما تبقى لنا مما بنته الاجيال السابقة.
ويستطرد القارئ النبيه، فيقول ان رنكو المسكين لم يكن يملك سوى مسدسه وحصانه الأثير، وحصاد معاركه كلها لم يكن يتجاوز في زمنه بضعة الاف من الدولارات. ومعارك الكاوبوي في مراحلهم الذهبية كانت تنتهي بحفنة من الدولارات، أفلا يؤدي استذكار هذه الافلام الى اسقاطات مخلة، مقارنة باتلاف مئة مليار دولار خلال السنوات الماضية في حمى استشراء الفساد ونهب خزينة الدولة، والسلسلة اللامتناهية من الاستباحات التي ترتكبها السلطة السياسية واجهزتها بحق المواطنين الابرياء، بالاضافة الى مهرجانات القتل اليومي على ايدي مجرمي داعش والقاعدة؟
اكثر من قارئ فضل ايراد تشبيهات اخرى، من خزين افلام المافيا المعاصرة، حيث تدخل عصاباتها في بُنية الدولة وتتماهى فيها، بحيث يستحيل تمييزها عضوياً عنها وعن تجلياتها.
لكن احد القراء يستدرك فيقول: لا حاجة لمثل هذه التشبيهات، فانها مخلة، مهما بلغت فيها بشاعة الجرائم المرتكبة، سواء تمثلت بالقتل او السرقة او الفضائح المجلجلة. ثم من لديه القدرة بعد ان تداخل التكوينان، المافيا المليشياوية على تنوعها وأضلاع الدولة الفاشلة المتكسرة التي تتكئ على حزام أمانٍ يستحيل إماطة اللثام عن الأقنعة التي تختفي خلفها؟
ويختم القارئ بالقول: ان المشهد العراقي اليومي، هو اقرب الى المسلسل الأميركي المشهور "دالاس"، وليس لنا غير ان نتمنى ان لا تستمر حلقاته وأجزاؤه، كما دالاس، عدة اجيال.. فالمسلسل الأميركي الشهير ما زال مستمراً حتى الان..!