اننا نلمح انقسام اهل الانبار بشأن كيفية معالجة محنتهم، وأقل ما يمكن لاهل الانبار ان يفعلوه في هذه الظروف، هو ان ينقسموا. لكن هؤلاء يجمعون ويتفقون على نحو خطير، حول كلفة بشرية مؤسفة، مرشحة للتصاعد هناك، لا بسبب الاشتباكات بين مجموعات متنوعة فحسب، بل كذلك بسبب القصف المدفعي الذي يقوم به جيشنا، ل"مواقع القاعدة" في الفلوجة والرمادي.
امامنا هنا قضيتان، فلماذا ننتظر من جيشنا ان يكون متقناً "مضبوطاً" في عمله، بينما كل الدولة تسير بطريقة الطيش وتعجز عن اصابة الهدف؟ والثانية هي اننا لم نكن نصدق امكانية ان نقع في الفخ السوري، حتى قبل بضعة شهور. ماذا دهانا؟
اهل الانبار يقولون ان سهام جيشنا تطيش وتخطئ اهدافها، وان المدافع تهوي فوق رؤوس ابرياء. انني اتردد احيانا في التصديق، او يساورني الاتهام بالمبالغة لمن يحصي ضحايا مدفعيتنا، ويطلق صرخات استغاثة، عبر وسائل الاعلام او في رسائل خاصة تصل عبر اصدقاء. ثم اسأل نفسي اكثر من مرة: ان سهامنا تطيش وتخطئ اهدافها، في الشؤون البلدية والخدمية والصحية، من اعلى رأس الدولة الى اصغر موظفيها. فلماذا نفترض ان دولة تعجز مدنياً، عن رفع القمامة من شوارع ذي قار او قلب بغداد، ستنجح عسكرياً في تنظيف شوارع الانبار، من داعش، ودونما كلفة بشرية او اخطاء تطال العوائل البريئة التي لا حول لها ولا قوة؟ من قال اننا مثل الصومال في الاداء المدني، ومثل روسيا في شؤون العسكر، دونما تشكيك بشجاعة الشجعان؟
ان "الثرم" الجماعي هي الاستراتيجية الوحيدة التي عرف بها العراقيون عبر عقود. واذ لا نريد ان نتحدث عن المقابر الجماعية او حلبجة، كي لا نتورط بضريبة المقارنة بين فشل صدام حسين وفشل المالكي، فإننا نتذكر كيف انتهت حوادث الرهائن على يد قواتنا. في الغرب والشرق تستمر المفاوضات بين الخاطف والدولة اياماً واحيانا اسابيع، اما في كنيسة النجاة وما شابه، فلم يكن هناك صبر، بل "ثرم" سريع للخاطف والمخطوف. وفي سياستنا ايضا لا يوجد تفاوض او تفاهم، بل تصعيد يتلاعب بمشاعر كل الطوائف، ثم "ثرم" للجند ولداعش وللاهالي العالقين في الصراع، دفعة واحدة.
الانباريون المنقسمون في تقييم وضع المدينة، يتفقون على ان اي تصعيد عسكري سيضاعف الكلفة البشرية، في صفوف المدنيين، بل وفي صفوف ابناء قواتنا المسلحة. والامر سيدفعنا الى تكرار السؤال بلا ملل او كلل: هل كان يمكن ان نواجه هذا المأزق، لولا ارتجالات سياسية، وخطوات مستعجلة لا يبررها شيء؟
لم نكن حتى قبل اسابيع، نتخيل اننا سننزلق نحو "مشهد سوري" في قلب الانبار، مدفعية تقصف مسلحين يتوارون بين الازقة، فتخطئ هدفها في الغالب وتقتل الاهالي. انسداد للفعل السياسي وتيه في الشعارات وجدل حول الشرعية واللاشرعية، بينما الترويع مستمر، في الانبار المترقبة، وفي شوارع بغداد التي لا تبارحها اشباح الموت العدمي. من الذي كان يحتاج معركة كهذه؟ هل هو سوى الطرف الذي بات يتبجح هذه الايام قائلا ان "المعارك، تزيد من شعبيتنا"؟ انها الحكاية العتيقة ذاتها. لقد فشل السلطان في مشاريع السلام، فاقتحم مجالات الموت، مردداً بيت قصيد لجدنا الاعرابي:
اذا لم تكن تنفع فضرّ فإنما
يراد الفتى كيما يضر وينفع!
وعلى خطى الاسلاف، تمتنع السياسة ويستحيل بناء تسوية عاقلة، وينزوي كل العقلاء ويصمتون او يكادون، ويظل الطريق الوحيد امام سلاطين ارض السواد، هو البحث بين اشلائنا، عن نصر ضائع. لابد ان السلطان يبتسم الان، وحوله متملقون كثيرون ينقلون اليه مبالغات حول "شعب" نسي كل الفشل، وراح ينتظر نتائج المعركة، وتوابيت من كل الطوائف، تدفع ثمن غطرسة حاكم لا يسمع النصح، ويتفنن في كسر كبرياء شعبه، ويتبرع بتحويلنا الى سوريا ثانية، في الانبار، عقاباً لجمهور لم يصفق له.
ان مدافعنا تتكلم وتسرد حكاية الفشل. ودوماً لا توجد لهجة اكثر حزناً من عويل المدفعية
ماذا تقول المدافع في الانبار؟
[post-views]
نشر في: 18 يناير, 2014: 09:01 م
جميع التعليقات 2
ابو سجاد
ياترا ماذا تغير في عر اقنا المذبوح كنا نتامل ان تنتهي لغة المدافع وتستبدل بلغة العقل والتعقل والحوار المتابدل ولكن للاسف لم يتم استبدال ذلك فبقت لغة العصبية والعنجهية الصدامية هي نفسها الدارجة في يومنا هذا الى متى نبقى ندفع ثمن حثالات التاريخ اللا ان الاو
امير علوان
والله استاذ سرمد انت من القائل الذين اثبتوا صدق رسالة الصحافة .... كان بامكانك ان تلتحق بجوقة المطبلين للسلطان وتضمن راحة بالك ووفرة من العطايا ولكن اختيرت وصممت على مبدأ .... لا تستوحشوا طريق الحق لقة سالكية