TOP

جريدة المدى > عام > امتياز الشعر وقصص الحب المرّة

امتياز الشعر وقصص الحب المرّة

نشر في: 19 يناير, 2014: 09:01 م

 موضوع الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد، موضوع استهواني شاباً وظلت قصائد له تزيد إعجابي به كلما عاودت قراءته. وإذا كان مصدر الاستهواء هو قصة موت طرفة، أو قتله، شاباً في السادسة والعشرين (جون كيتس الإنجليزي مات أيضاً في السادسة والعشرين) وتسميته طرفة

 موضوع الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد، موضوع استهواني شاباً وظلت قصائد له تزيد إعجابي به كلما عاودت قراءته. وإذا كان مصدر الاستهواء هو قصة موت طرفة، أو قتله، شاباً في السادسة والعشرين (جون كيتس الإنجليزي مات أيضاً في السادسة والعشرين) وتسميته طرفة بالفتى القتيل، فالإعجاب بشعره ثقافي – لغوي بالتأكيد ..

ومع أن اهتمامي أساساً بالشعر الحديث ونقده وعملت في الترجمة، لكن للشعر العربي الجاهلي مكانة في نفسي، فأعود له بين حين وحين وقد انتبهت لهذه المسألة أو تلك. ومن هذا ما أريد إيضاحه والكلام فيه اليوم.
في كلام اليوم أردتُ ثلاث مسائل، الأولى أن يترفع بعض أساتذة الأدب وهم يدرسون الأدب الجاهلي، عما يرويه الرواة وألاّ يتحولوا مثلهم إلى حكاواتية .. لابد من علمية وتفحص دقيق للخبر ومقارنات تصل بنا إلى ما يرتضيه العقل والعقل المعاصر على التخصيص. الرواة المتبطلون يضيفون ويؤلفون ويخلطون قصة بقصة وخبراً بخبر، يضاف لذلك، من قبل ومن بعد، إفرازات المخيلات الشعبية عبر الأجيال. فهل يعقل ان شاعراً ذكياً، واحداً من اكثر الشعراء رهافة وتمرّداً وأوضحهم وأجدّهم أفكاراً نرتضي عنه قصة مفتعلة كهذه؟
إن الملك في العراق أعطاه كتاباً وأعطى خاله المتلمس كتاباً إلى عامله في البحرين أوهمهما بهبة أو جائزة وهو امر يقتلهما إذا وصلاه: الخال يلقى غلاماً في الطريق يفتح له الغلاف ويقرأ الأمر بقتله، فلا يذهب إلى البحرين ويهرب. وانه نصح ابن أخته طرفة بأن يفض الكتاب فيرفض واثقاً من الجائزة ويذهب إلى البحرين فيُقتل .
هذا كلام مصنوع. فليس معقولاً أنه رأى الأمر بقتل خاله ولا يرتعب ولا يظن سوءاً بكتابه هو. هذه مسألة. المسألة الثانية إذا غضب الملك على طرفه لأي من الأسباب التي يذكرها الرواة، سواء لأنه هجا الملك أو لأنه تغزّل بأخته، لماذا لا يقتله هو؟ لماذا يرسله من العراق إلى البحرين ليقتله تابعه هناك؟ هل يخاف من أثر قتله؟ يقتله سراً، يأمر أحداً بقتله.. وأي ملك هذا يخشى من قتل شاعر شاب يرضى بأن يذهب إلى البحرين من اجل هبة أو جائزة؟ ثم هل يعقل أن الملك وندمانه في جلسة سكر وتدخل عليهم أخت الملك سافرة فيتغزل بها طرفة ويشتهي تقبيل فمها؟ لم يحصل هذا حتى في بلاطات أوروبا القرون الوسطى ... 
الرأي الذي يمكن تقبّله هو ان طرفة هجر رعي الإبل الذي لا يليق بشاعر مزهو بنفسه تيّاه بشعره وراح يرتزق من مكان ثان وفي عودته، وقد نال شيئاً تعرض له لصوص أو قطّاع طرق فقتلوه.
ولا نستبعد، في فكرنا المعاصر، أن شاعراً رفض الثوابت الفكرية القبلية وتعرض لنظام القبيلة السائد بأفكار، شبه وجودية متمردة، قد أضمروا الخلاص منه. هذا طبعاً إذا كان القتل قد حدث فعلاً، ولم يمت مرضاً.
مقدم الديوان يقول إننا لم نعثر، من خلال ما قرأنا من شعر ونثر عن طرفة، ما يشير إلى مقتله .. وأما قول أخته "الخورنق" التي "رثته":
عَدَدْنا له ستاً وعشرين حجّةً
فلما توفّاها ، استوّى سيداً ضخماً
فُجِعْنا به لما رجونا إيابَهُ
على خير حال ، لا وليداً ولا قحما
فأولاً عبارة فُجعْنا لا تقطع بقتله وعبارة توفّاها لا تقطع بأنه توفي. بل هي قد تعني أمضاها أو أكملها. هذه هي اللغة وهذا هو المعجم.
المسألة الثانية في كلامنا عن هذا الشاعر الشاب المتمرد والوجودي المبكّر الذي أعطى دروساً لشعراء عديدين بعده، هي انه يضمّن أشعاره ذكراً لـ "سلمى". ويبدو أن سلمى اسم صحيح لامرأة معينة وليس واحداً من الأسماء الشعرية التي يطلقها الشعراء على حبيباتهم؛ مثل بثينة وليلى وأميمة، أو أُمام كما يقول جرير، وفاطمة أو فاطم كما يقول امرؤ القيس .. ذلك لأن طرفة يذكرها في عدة أبيات ويخصص لها قصيدة. ويمثّل بـ المرقّش العاشق الذي مات حباً بـ أسماء. 
لكننا لا نملك تفاصيل عن "أسماء" التي قتلت المرقّش حباً. هي أول بطلة حب مُرّة في كلامنا اليوم، بسبب أنها علقت بأخبار طرفة.
وقبل أن أخطو للقصة الثانية من قصص الحب المُرّة، أريد الوقوف ، لُغَوّياً أو بلاغياً، عند مسألة في التعبير الشعري. تلك هي أن طرفة يظهر لنا في شعره براعات تعبيرية تستحق درساً مستفيضاً. واحدة منها خصيصة إرجاء الفاعل أو إرجاء المفعول أو إرجاء الخبر، ليقدم ضمناً تفصيلاً كاشفاً قبل ان يفصح عنه، مما يسميه السلف للأسف، حشواً. وقد يكون هذا الحشو أهمَّ ما في البيت. في معلقته ، مثلا:
خَذول، كأن الشمس ألقتْ رداءها 
عليه، نقيّ اللون لم تتخدِّ دِ ..
الشعر الحقيقي في هذا البيت يكمن في: "الشمس ألقت رداءها عليه" و ما تبقى مألوف معروف.
ومن المعلقة أيضا: 
حسامٌ ، إذا ما قمتُ منتصراً به، 
كفى العودَ منه البدءُ ليس بمعضدِ
الصورة الشعرية التي نحتفي بها نحن المعاصرين اليوم، "(حسام) إذا ما قمت منتصراً به".
هذه اللوحة، القيام بالسيف منتصراً. هي الشعر ، ما تبقى حماسة ولفظية مألوفة ولا جديد فيها.
في قصيدة بعيدة عن هذه تخص حبيبته "سلمى" يرد هذا البيت: 
ديارٌ لسلمى إذ تصيدُك بالمُنى
وإذ حبلُ سلمى منك دانٍ تواصلُهْ
هو ظل مخلصاً لخصائص فنه الشعري حتى وهو يصف ديار الحبيب. فما يعنيه من الديار ليس ما يعني غيره: الأطلال، النؤى ، البعر .. الخ. ما يعنيه هو "إذ تصيدك بالمنى" وتيسّر الوصال بسلمى .. هذا هو حديث الذات أو الشخصي المضمر وفيها نجد طرفة لا غيره !
وقوله :
ليالي أقتاد الصبا ويقودني 
يجول بنا رَيعانُه ويحاولُهْ
هذه هي حيوية الصبا والشباب والعنفوان واللهو الجميل، هذا هو طرفة الشاعر المزهو البهيّ الفتي، ليس غيره، من يقول بجمال الروح وخفتها وهذه العافية المبهجة.
نعود إلى الخصيصة البلاغية ، التركيبية، في شعر طرفة التي سبق أن نوّهنا عنها لنصل إلى قوله.
إلى السرو، أرضٌ ساقَهُ نحوها الهوى،
ولم يــدر أن الموت بالسرو غائــلُـــهْ 
لغةً، بدأ الرحلة بالسرو وهي أرض "ساقه نحوها الهوى" لكنه يعيد "السرو" في نهاية الرحلة. 
يظهر هذا البيت عبثية الحياة ،فالسرو الذي اتجه له مفعماً بالهوى ومدفوعاً بحماسة إليه أوصله إلى الموت. لغةً، سرو في البداية وسرو في النهاية فكأن البداية والنهاية شيء واحد في الظاهر اللغوي. هنا شعرية عقلية ، كما هي شعرية تجربة ووجود حيث وصل مبتغاه وفي مبتغاه نهايته أيضاً! 
هذا البيت يذكرني ببيت آخر من قصيدة له يؤكد عبثية الزمن أو الحياة: 
لبســـتُ الليـالي فأفــنيـنني
وسربلني الدهرُ في قُمْصِهِ 
نعود إلى قصيدة سلمى والإجراءات البليغة والحشو الذي في رأيي ليس حشواً والذي سيوصلنا إلى قصة الحب المُرّة الثانية وقد كانت ضمن موضوعنا. يقول: 
قضى نحبَهُ وجداً عليها مُرقّش 
وعُلِّقتُ من سلمى خَبالاً أماطِلُهُ 
لغةٌ، أرجأ الشاعر الفاعل في الشطر الأول إلى آخر الشطر وأرجأ المفعول به في الشطر الثاني إلى آخره، النتائج طبعاً تأتي في الأخير وهذا أدراك من شاعر حصيف يعرف كيف يكتب ...
لكن، وقبل ان ننتهي من براعات الشاعر الفنية لنعد الى قصة الحب المُرّه الثانية ولنتحدث عن "أسماء" العجيبة هذه التي مات فيها المرقش حباً : هي ابنة عمه. رفض عمه ان يزوجها إيّاه. وزوجها إلى رجل "مُراديّ" في غياب المرقش. فلما عاد المرقش من سفره، قيل له ماتت. ثم انجلت له الحقيقة: فخرج يطلبها في ديارها الجديدة البعيدة. حتى مرض في الطريق وسقط إعياء بعد ان دانى أرضها. مر به راع لأبل زوجها. فأعطاه المرقش خاتمه وهذا أوصله لأسماء حبيبته، فسارعت إليه أسماء مع زوجها و احتملاه إلى منزلهما – فأقام زمناً يُمرّضانهِ حتى مات في بيتهما.
في هذه القصة، وسواء كانت موثقة أو تأليفاً، عدة نقاط إنسانية تكشف عن تفاوت القِيَم في المجتمع القبلي الجاهلي: أولاً العم كذب على ابن أخيه وزوج ابنته لسواه. ثم كذب عليه حين عاد وقيل له ماتت.
ثانيا، الشاعر المرقش عاشق أسطوري يعود من رحلته عجلان إلى دار الحبيبة. وحين يعلم بحقيقة زواجها يبدأ رحلة حب أخرى إلى دار زوجها ليراها، ويمرض في الطريق إليها ويسقط إعياءً قريباً من ديارها وحيث ترعى ابلهم.
النقطة الثالثة والمهمة ان الزوج لم يغضب غيرةً أو ثأراً، بل يهرع وزوجته ليحملاه إلى بيتهما ويرعيانه حتى يموت فهو أولا قرب حبيبته ولم يمت بحسرة البعد عنها. ثانيا أنه عاشق حقيقي ألغى المسافة التي صُنِعت بينهما وأكمل وفاءه بأن قصد ديارها ليسقط وهو في الطريق إليها.
قصة الحب هذه على مرارتها ، تحمل قيماً فروسية كما تؤكد على ان الثلاثة، يحترمون الحب. أخيراً إن الزوج احترم مشاعر زوجته لحبيبها الأول، وهذا إدراك يستحق الاحترام!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

في مديح الكُتب المملة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

كوجيتو مساءلة الطغاة

مقالات ذات صلة

علم القصة: الذكاء السردي
عام

علم القصة: الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الاولالقصّة Storyالقصّة وسيلةٌ لمناقلة الافكار وليس لإنتاجها. نعم بالتأكيد، للقصّة إستطاعةٌ على إختراع البُرهات الفنتازية (الغرائبية)، غير أنّ هذه الاستطاعة لا تمنحها القدرة على تخليق ذكاء حقيقي. الذكاء الحقيقي موسومٌ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram