TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > أمريكا مطلعَ الشتاء

أمريكا مطلعَ الشتاء

نشر في: 19 يناير, 2014: 09:01 م

2
شخصياً لم أقطع حاجزَ الخوف فحسب، حين قطعتُ الساعاتِ السبع والنصف إلى واشنطن، بل قطعتُ دابرَ المخيلة التي أنشأتْ مدنَ الولاياتِ المتحدة على هواها. حاجزُ الخوف من السفر الجوي الطويل على المحيط، رغم هدوئه، كان بحجة علل القلب. صحيح أني سبق أن سافرتُ إلى الكويت ودبي، وقطعتُ الساعات ذاتها. ولكن المخافةَ كانت مُدجنةً برعاية مشاعر الألفة العربية. أما دابرَ المخيلة فلأني منذ الصبا الأول جامحُ الخيال في بناء معمار هذه الولايات البعيدة بإزميل الكتب والسينما واللوحات والصحافة. ألم أقرأ قصائدَباوند، كارلوس وليمز، كامنغز،طيش البيتز، الجبل الأسود، والمعاصرين؟ ألم أرَ فيلم "كنغ كونغ" والسوبرمان، والباتمان، ولكمات جيمس كاجني، ومسدسات همفري بوغارد؟ ألم أتأمل لوحات هوبر، ولطخات بولوك، وارهول وروثكو؟ وأطلع في كل حين على خبر جامح، وابتكار مُجنّح، في الصحافة والتلفزيون؟ عناصر حديثة كفيلة بإطلاق العقل من عقاله، والمخيلةِ من غرفها العربية المُغلقة.
كنتُ في الطائرة أتوقعُ أن أرى هذا الذي أقامتْ معمارَه المخيلةُ التي عرضتُ لها. ولكن توقعي خابَ، ومجسّاتِ مخيلتي المرهفةَ المُتطلعةَ ذوتْكغصن. فالمطار كمطار لندن، ومسؤولوه وناسُه بالغو الرقة كثيرو الابتسام. وفي الشوارع رأيت العمارةَ والحدائقَ لا تحتمل وقعَ خطوات كنغ كونغ ولا أجنحة إنسان وطواط.والمدينة عامرة في عزّ استرخائها. قلتُ، ربما نيويورك وحدها، لا واشنطن، فهي عاصمة صغيرة لم تُحسب حساب الولاية، ونفوسها تتجاوز النصف مليون بقليل.
بعد أربعة ليالٍ غادرتُ إلى مِشِغان، ديترويت، وكنت أطمع بالمزيد من مؤتمر بغداد الثقافي، ومن مشاهد الكونغرس، البيت الأبيض، نصب لِنكِن (الذي نلفظه لِنكولِن)، البنتاغون، وشيء يسير من المتحف الوطنيللفن الذي كان نصف مُغلق.
ديترويت مدينة سيارة فورد، وكهرباء أديسون ومهجر الكثير من العراقيين والعرب. كانت بالغة الغرابة في طبيعة جغرافيتها وعمارتها. تجولت فيها داخل سيارة صديق، لأن التجوال على قدمين يكاد يكون منسياً. في الليل بدتْ لي عتمةً لا سكن فيها. في النهار اتضحت لي الأسباب. فاتساعُ المدينة أفقيٌّ، والفضاءاتُ بين الأحياء واسعة، والبيوت واطئة بطابق أرضي واحد، وساكنوها يفضلون الاقتصاد الأقصى في الإضاءة. ولذا يبدو التجوال الليلي فوق مقعد سيارة غير مضاء طبعاً، تجوالاً داخل أحراش برية لا حدود لها. على أني عرفت بأن مدينة ديترويت/ مشيغان هي نموذج لمعظم المدن الأمريكية. والمدن ذات العمارة العمودية معدودة مثل نيويورك، سان فرانسيسكو، لوس أنجلس..
جئتُ مدعواً لقراءةٍ شعرية وحديثٍ مفتوح مع مثقفي الجالية العراقية، تحت رعاية "منتدى الرافدين للثقافة والفنون". ولقد شاءت الندوة أن تتوزع على ثلاثة محاور: الجيل الستيني الذي أنتسبُ إليه، النقد، والشعر والموسيقى. ولكن زمام الحوار انقاد، لا بفعل ولعنا العراقي بزوايا نظرنا السياسية بل بفعل خبرة الأذى والألم، إلى جدل واستنطاق حار ومثير للحماس. كنت أعرف أن معظمَ آرائي ومواقفي النقدية وقصائدي خلافيةٌ، وتمسُّ الجراحَ النازفة، إلا أني أعرف أيضاً أنها ضرورية لا طمعاً بتسكين، بل تطلّعاً لعلاج. وكانت مواطنُ الخلاف والوفاق تقلّبُ لي صفحاتِ كتاب المهجر العراقي بحذر من يُلقي بقايا وجوده المُتعب بين يدي ملاك. كنت أتأمل فيهم العربي والكوردي والآشوري والكلداني والمسلم والمسيحي والمندائي.. كمنْ يتأمّل أصابعَ يديه. تحاول جميعُها أن تقبضَ على زمام عربة متهالكة في طريق معتم، وعِر. ولكني بقيتُ أُلحّ على مخاطر الفكرة الواحدة، باللمسة المقدسة. دينية هذه الفكرة أو دنيوية. قناعةُ العقل اعتقال له. يجعل صاحبه مدمناً على الرضا والإصغاء لما يُرضيه فقط. الأمر الذي يجعل هذا المعتَقَلَ مُعتماً ويَعمي البصيرة. وكان الجمهورُ حروناً حيناً، وحيناً مُتردداً، ومستجيباً أحياناً، وبالغ الكرم معظم الأحيان. انتهى الجمع أخيراً على مائدة عشاء طويلة، أرق ما يفتنُ الشهيةَ فيها رائحةُ الكباب العراقي وخبزُ التنور العراقي.
بعد ليالٍ أربع حلّقت باتجاه نيويورك.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق منارات

الأكثر قراءة

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: "علي بابا" يطالبنا بالتقشف !!

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

العمود الثامن: موجات الجزائري المرتدة

العمود الثامن: بلاد الشعارات وبلدان السعادة

 علي حسين نحن بلاد نُحكم بالخطابات والشعارات، وبيانات الانسداد، يصدح المسؤول بصوته ليخفي فشله وعجزه عن إدارة شؤون الناس.. كل مسؤول يختار طبقة صوتية خاصة به، ليخفي معها سنوات من العجز عن مواجهة...
علي حسين

قناطر: شجاعةُ الحسين أم حكمةُ الحسن ؟

طالب عبد العزيز اختفى أنموذجُ الامام الحسن بن علي في السردية الاسلامية المعتدلة طويلاً، وقلّما أُسْتحضرَ أنموذجه المسالم؛ في الخطب الدينية، والمجالس الحسينية، بخاصة، ذات الطبيعة الثورية، ولم تدرس بنودُ الاتفاقية(صُلح الحسن) التي عقدها...
طالب عبد العزيز

العراق.. السلطة تصفي الحق العام في التعليم المدرسي

أحمد حسن المدرسة الحكومية في أي مجتمع تعد أحد أعمدة تكوين المواطنة وإثبات وجود الدولة نفسها، وتتجاوز في أهميتها الجيش ، لأنها الحاضنة التي يتكون فيها الفرد خارج روابط الدم، ويتعلم الانتماء إلى جماعة...
أحمد حسن

فيلسوف يُشَخِّص مصدر الخلل

ابراهيم البليهي نبَّه الفيلسوف البريطاني الشهير إدموند بيرك إلى أنه من السهل ضياع الحقيقة وسيطرة الفكرة المغلوطة بعاملين: العامل الأول إثارة الخوف لجعل الكل يستجيبون للجهالة فرارًا مما جرى التخويف منه واندفاعا في اتجاه...
ابراهيم البليهي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram