حين نجحت ثورة 14 تموز في ضرب الإقطاع، لم يصبح الفلاح حرا في أرضه، حسب، بل وتحررت روحه فنبض الفرح لأول مرة في قلب أغانينا الريفية. صارت، بعد ان كانت حزينة مكسورة، تنشر الفرح والتفاؤل. اذكر منها: "مشحوفي طر الهور" ويا ارضنا يا ارضنا" و "يا عنيد يا يابا" وغيرها.
في تلك الأجواء الجديدة ظهرت قصيدة "مرينه بيكم حمد" لاول مرة في العام 1985 التي كتبها مظفر النواب بعد شهر او شهرين من الثورة. لم تكن قصيدة بل، في ما يخص الشعر الشعبي، كانت بيانا شعريا لإعلان ولادة القصيدة الشعبية الحديثة. أما من الناحية السياسية والاجتماعية، فقد كانت منشورا سياسيا جعل من "حمد" رمزا للفلاح الجديد الذي كان عبدا في زمان الإقطاع فصار بعد زواله بطلا شعبيا. كنت قد كتبت عن هذا الرمز في عمود سابق عنونته "حمد".
لم تدم الفرحة سوى اقل من خمس سنوات ليخنقها انقلاب يوم 8 شباط عام 1963. يوم تبعته تسعة اشهر دموية استنزفت آخر قطرة من قطرات أحلام العراقيين وآمالهم وأفراحهم فامتلأت الصدور بالحسرات والهموم. نعم سقط البعثيون بعدها، لكن اثر التسعة أشهر من حكمهم ظل كما الندوب السود التي ما زال أثرها ماثلا في النفوس لحد اليوم.
لم يسلم الشعر الشعبي من الخراب بعد الانقلاب الشباطي الأسود. فالجفاف الذي عم أرواح العراقيين رافقه امتلاء الساحة الشعرية بقصائد شعبية لشعراء تنقصهم الموهبة تحولت الى أكوام من كلمات لا حياة فيها. جفاف جعل النفس العراقية تواقة لمن يروي عطشها ويخلصها من التخشب الروحي. وكأنها استجابة من القدر، وصل ديوان "للريل وحمد" للعراق بعد ان طبع ببيروت. تذكر الناس قصيدة "مرينه بيكم حمد" فعاد "حمد" من جديد. ومع عودته جوبه بحرب تحولت الى معارك طاحنة. حرب أشعلها جيش من عديمي الموهبة بمساندة السلطة آنذاك. قالوا ان "حمد" يعني الحزب الشيوعي فهو كافر وملحد يستحق إصدار فتوى لإنهاء وجوده. وصاح عديمو الموهبة، على طريقة "أتتركون حمير الله؟": هل يعقل أن أحداً يركب قطارا ويسمع صوت دقّ القهوة؟ وقال آخر: يا عباد الله كيف يمكن لمن يجلس في "فاركون" قطار أن يشم رائحة الهيل؟ مهرجانات هجومية ومقالات تسخر من "حمد" ومن الذي مر به. ورغم تلك الحرب انتشرت القصيدة بسرعة سحرية فوصلت إلى طلبة الجامعات فصارت نشيدا للحب والأمل. وكردة فعل سريعة بادر شعراء القصيدة التقليدية، خاصة التجار والمتمكنين سلطويا وماديا الى تأسيس "جمعية الشعراء الشعبيين" في العام 1967. كان من بين شروط الانتماء أن لا يكون المتقدم من كتاب القصيدة الحديثة. مادة صريحة في النظام الداخلي نصت على أن العضو يجب أن يكتب القصيدة الموزونة والمقفاة. ولما وجدوا أن اغلب الذين يكتبون القصائد على طريقة النواب يمكنهم ان ينظموا الشعر "الموزون والمقفى"، اضاف مؤسسو الجمعية شرط "ان لا يكون للعضو انتماء سياسي". ومن وقتها صار كل من ينظم القصيدة الحديثة سياسيا. انه شيوعي حتى وان لبس عمامة. وتمر الأيام لتكشف ان العراقيين، خاصة المتعلمين منهم، قد احبّوا "مرينه بيكم حمد" التي فتحت مدرسة لجيل آخر من الشعراء الشعبيين غير أولئك التقليديين.
لقد كنت شاهدا على تلك الأيام التي أتذكرها اليوم فأشم بها عبقا يحيي نفسي بأمل قادم ينبئني أن غيوم الخراب السود التي تلوح في سماء العراق اليوم ستزول مثلما زالت التي قبلها. سأظل بانتظار "حمد" رغم انه قد مر زمن طويل على العراق و "لا بالمحطـة رف ضـوه، لاخط إجانـه من البعد، لا ريـل مـر عالسدة".
جميع التعليقات 1
ليث العراقي
الإستاذ هاشم المحترم .. ثق أن هناك الكثير ممن يسمع الآن وعبر كلمات المخلصين ( دك الكهوة )كما يشم رائحة الهيل كلما تنشق رائحة ورق الجريدة الوطنية