اجتهدتُ أن أترجمَ هذه القصيدة عن الإنكليزية، عبر النصّ الذي نقله عن الإسبانية أنطوني كيريغان Anthony Kerrigan، وقبله هارولد مولاند Harold Morland، لكني عدتُ إلى النص الإسبانيّ نفسه وتفحَّصته بقدر ما تسمح القرابة اللغوية، خاصةً المعجمية الأكيدة بين ال
اجتهدتُ أن أترجمَ هذه القصيدة عن الإنكليزية، عبر النصّ الذي نقله عن الإسبانية أنطوني كيريغان Anthony Kerrigan، وقبله هارولد مولاند Harold Morland، لكني عدتُ إلى النص الإسبانيّ نفسه وتفحَّصته بقدر ما تسمح القرابة اللغوية، خاصةً المعجمية الأكيدة بين الفرنسية والإسبانية اللاتينيتين. لا أزعم البتة رغم ذلك أني أعرف الإسبانية، فقد كانت هذه اللغة، في هذا المقام المخصوص، محض أداةِ تفحُّصٍ مُتاحةٍ مُساعِدةٍ لمتذوُّق الشعر وللباحث والمترجم.
مرة أخرى، بمناسبة هذا "الجمانستيك" اللغويّ الشيّق، يمكن للمرء أن يعاين مقدار التأويل الذي يَحْكم بالضرورة عملية ثقافية صافية مثل الترجمة. وعلى سبيل المثال يترجم الإنكليزيّ كيريغان في البيت "وأن جوهنا تمرّ مثل الماء" الفعل الإسباني" (pasan = يمرّ، وهو تقريباً نفسه بالفرنسية passer) بالفعل الإنكليزيّ (vanish = يتلاشى، يضمحل، يختفي، يحتجب)، مع ما بينهما من فارق دلاليّ كبير. وفي البيتين: "وأن نبدّل إهانة السنين - إلى موسيقى، وشائعةٍ، وإلى رمزٍ"، ثمة المفردة الإسبانية (rumor = شائعة، إشاعة، وهو نفسه بالفرنسية rumeur)، وقد ترجمها الإنكليزي بـ (sound) التي لم أجد لها ما يماثل معنى الإشاعة . وفي البيت: "[الشعر] الأبديّ والفقير" يترجم مفردة (الفقير pobre الأصلية وهي بالفرنسية pauvre) الواردة في النص الأصليّ الإسبانيّ بـ humble المتواضع ، مع أن البيت يتألق ويتماشي مع روح بورخيس بمفردة الفقير. وما إلى ذلك في نصٍّ صغيرٍ ليس صعباً قط. كان للتأويل والذائقة درجة عليا في اختيارات ذلك المترجم الإنكليزيّ.
عنوان النص الإسبانيّ الأصلي هو (Arte Poética = الفن الشعريّ)، وقد كتبه بورخيس عام 1960. قراءة متأملة للقصيدة ستؤكد بأنه لا يُعالج الشعر وحده وإنما الفن عموماً، وحدود الخلق الجماليّ. القصيدة مستلّة من كتابه (نمور الحلم) وهي ترجمة إنكليزية لعمله المعنون Hacedor: الصانع، الخالق. وفيه يقدّم العديد من المقاربات عن العابر والأزليّ عبر أنواع أدبية متعدّدة كالقصة القصيرة والشعر والاقتباسات. قصة "نمور الأحلام" نفسها مترجمة للعربية بنسختين.
الفن الشعري
بورخيس
التحديق في نهر مصنوع من الزمن والماء
وتذكُّر أن الزمن هو نهر آخر.
تعلُّم بأننا تائهون كالنهر
وأن جوهنا تمرّ مثل الماء.
الشعور بأن اليقظة هي حلم آخر
أن الأحلام بعدم الحلم والموت
الذي تخشاه أجسادنا هو موتُ
كلّ ليلةٍ، [الذي] يُسمّى حلماً.
أن نرى في كل يوم وكل سنة رمزاً
لكلّ أيام الإنسان وسنواته،
وأن نبدّل إهانة السنين
إلى موسيقى، وشائعةٍ، وإلى رمزٍ.
أن نرى في الموت حلماً، وفي الغروب
ذهَباً حزيناً- هذا هو الشعر،
الأبديّ والفقير، الشعر،
العائد، كالفجر والغروب.
في المساء هناك أحياناً وجهٌ
يرانا من أعماق المرآة.
الفن يجب أن يكون مثل هذه المرآة،
التي تكشف لكلّ واحد منا عن وجهه.
يُقال إن يوليسيس ، المُتْخم بالعجائب،
بكى حباً عند رؤية إيثاكا ،
الخضراء والمتواضعة. الفن هو إيثاكا تلك،
أبدية خضراء، وليست من عجائب.
[الفن] أيضاً كالنهر اللانهائيّ،
يمرّ، من الكريستال ومن
هرقليطس المتحوِّل نفسه، الذي هو نفسه
وآخر أيضاً، مثل النهر اللانهائيّ.