6ـ 7
المفارقة هي أنني في زيارتي الأولى للجامع الجديد الذي بُني في أوائل الستينات لم أتعرف على المنارة القديمة، ليس لأنها رُممت حتى بدت كأنها جديدة، بل بسبب الجامع الجديد الذي بُني إلى جانبها، من جهة سوق الشورجة، الذي أحيط بسياج من حديد، في الحقيقة السياج وحده هو تحفة من الفن والإبداع. الطريف هو أن السياج هذا بناه عبد الأمير الحداد، الملقب بشيخ الحدادين، كان بالخط الديواني رغم أن عبد الأمير الحداد لم يعرف القراءة والكتابة. ويستطيع زائر هذا الجامع أن يرى بعينيه مدى إبداع هذا الحداد في تطويع الحديد لجعله على هذا الشكل الرائع الذي تندر رؤيته في جوامع أخرى من العالم.
حكاية جامع الخلفاء، ربما تصلح لأن تكون خلاصة لبغداد المتخيلة، ليس بالنسبة لي أنا الطفل الذي كان يشكل لنفسه صورة خاصة عن بغداد، بل هي صورة خاصة للمدينة، كيف أن الانزياح أو التبدل الذي حصل لها، هو في المحصلة الانزياح أو التبدل الذي حصل لأكثر شواهدها التاريخية. كل الذين دخلوا إليها ظنوا أن ما بنوه وله علاقة بهم سيعبر التاريخ، سيكون خالداً، دون أن يعرفوا أن الشيء الوحيد الذي يبقى خالداً هو اسم المدينة فقط، زمنها المطاط. وليس هؤلاء الذين فرضوا عليها منطقهم أو نظراتهم الجمالية "الكريهة"، تجريدها من ثيابها القديمة وإلباسها ثياباً يختارونها لها جديدة، لا علاقة لها لا بطراز ولا بنوعية لباسها القديم، نفس الأمر حصل لأبنيتها، هُدمت وأزيلت ثم صُمم على أنقاضها أبينة جديدة لا علاقة لها لا بطراز المعمار القديم ولا بنوعية طابوقه أو أعمدة سقوفه، ومن يشك في ذلك عليه إلقاء نظرة إلى الصور القديمة ومقارنتها بما حدث للمنارة بصورة خاصة أو لجامع الخلفاء عموماً.
فبعد بناء سوق الغزل، بناه الوالي العثماني سلمان الكبير، ارتبط مصير المنارة بالسوق. ليس بالاسم فقط، إذ أُطلق عليها منارة سوق الغزل، بل في كل ما حصل للسوق، ليس لأن السوق المعروفة هذه في بغداد تقع لصق جامع الخلفاء في الشورجة، بل لأن السوق التي كانت ولا تزال سوقاً عجيبة غريبة، أصبحت أكثر أهمية من جامع الخلفاء؛ في البداية كانت سوقاً صغيرة حوت محال صغيرة لبيع الحبوب الجافة والبقوليات والأعشاب ومحال أخرى لبيع الطيور الأليفة وبعض الطيور البرية النادرة ،كالصقور والطواويس إضافة إلى الكلاب النادرة وأسماك الزينة، لكنها مع الوقت توسعت مع توسع المدينة وتزايد السكان، مع تزايد الطلب على الحيوانات النادرة وتبدل الأزمان. لم يعد أحد يكترث لجامع الخلفاء الذي على مر الزمن أصابه التصدع والقدم. وفي هذا لم يكن وحده، فحتى دير الآباء الكرمليين الذي عُرف بمجلس يوم الجمعة للأب أنستاس الكرملي الذي حضره الكثير من علماء اللغة العربية الذي منهم إمام جامع الخلفاء الشيخ جلال الحنفي، أصبح مصيره مرتبطاً بالسوق، مصيره من مصير السوق، فما حدث للجامع وللمئذنة خاصة يصعب تصديقه. أتذكر أنني وقفت مذهولاً أمامها في يناير/كانون الثاني 2004، ليس لأنني تذكرت المئذنة الجميلة التي مررت بها أثناء عملي حارساً ليلياً في مدرسة ابتدائية في محلة القشلة القديمة القريبة، بل صعقني الحال الذي انتهت إليه أضخم وأطول مآذن بغداد، وكان عليّ أن أغمض عيني قليلاً لأتذكر صورتها جيداً، أستعيد ما قرأته عنها، فهي الوحيدة التي يبلغ ارتفاعها 32 متراً ومحيط قاعدتها 20.64 متراً وبدنها 16.20 متراً، مقامة على قاعدة مرتفعة مضلعة قوامها 12 ضلعاً ويبلغ ارتفاعها 8 أمتار على عكس قواعد منائر جوامع سامراء والحدباء والنوري المربعة الشكل، كما تتميز بوجود حوضين أحدهما مشيد فوق قاعدتها ومنه تبدأ السلالم المؤدية إلى الحوض الذي يتوج البدن الإسطواني ويحيط ببدن آخر أصغر برأس أو قمة بصلية الشكل.
يتبع
تاريخ بطاقة بريدية
[post-views]
نشر في: 21 يناير, 2014: 09:01 م