TOP

جريدة المدى > سينما > ذاكرة السينما.. All that jazz.. عندما يقهر الإبداع أهداف الموت

ذاكرة السينما.. All that jazz.. عندما يقهر الإبداع أهداف الموت

نشر في: 22 يناير, 2014: 09:01 م

ذاكرة السينما تحفظ لنا في رفوفها الذهبية أعمالا نتوق لمشاهدتها بين حين وآخر ، وفي كل مشاهدة نجد جديدا ،تماما كالموسيقى الكلاسيكية ،حيث تتجدد السمفونيات ،والسوناتات ،والكونشرتوات ،كأننا نسمعها اليوم ، بوب فوس مخرج عبقري اشْتُهر بأفلامه الاستعراضية الج

ذاكرة السينما تحفظ لنا في رفوفها الذهبية أعمالا نتوق لمشاهدتها بين حين وآخر ، وفي كل مشاهدة نجد جديدا ،تماما كالموسيقى الكلاسيكية ،حيث تتجدد السمفونيات ،والسوناتات ،والكونشرتوات ،كأننا نسمعها اليوم ، بوب فوس مخرج عبقري اشْتُهر بأفلامه الاستعراضية الجميلة، لكن حياته الصاخبة وفرط التدخين أديا إلى أن يعتل قلبه.. فيلمه الذي لا ينسى " كل هذا الجاز " 1979يختصر العلاقة بين الخلق الفني والموت من خلال حركة الأجساد المنسابة عبر تجارب الرقص والاختبارات الموسيقية وحياة الحرية المنسلخة عن السياقات الاجتماعية الرتيبة ، فكلما عشق الفنان الإبداع وازداد شبقه للحياة والحرية   ازداد قربه من التفرد والموت،وكأن الخلق الفني هنا تعويض عن حياة سوف تفنى، فصيرورة الحياة فقاعة ينبغي أن تحتوي الإبداع قبل أن تنفجر.
(جيد يون) الذي الممثل "روي شيدر" ، مخرج استعراضات في"برودواي" يقاوم المرض والموت بالإبداع والخروج على المألوف، التدخين بإفراط  وتناول الخمر والصخب والإجهاد العصبي والتوتر، والعبث خارج إطار العلاقات الزوجية ، ويجد أن تحدي الموت يكمن في الخلق الفني الصعب  ، من خلال التناغم بين الحدث والرقص الإيقاعي للوصول إلى اكتمال عناصر الفرقة ، أي الوصول إلى كمال الخلق الفني  .البداية مع لقطات قريبة جدا لـ(جيد يون)  يتناول أقراص علاج ، قطرات للعين ، السيجارة ، ودوش الماء البارد وكاسيت مسجل يسمعنا موسيقى" فيفالدي"،هكذا يبدأ يومه  مخرج الاستعراضات العبقري "جيد دون " بجسد يذوي يقترب من حتفه من نهايته يعشق عمله حد الإدمان ولا يجد في حياته الزوجية والاجتماعية معنى أفضل من الإبداع، ثمة إنجاز فني يكتمل  شجرة تنمو وهو الاستعراض  الذي يلخص تلك الرحلة، وثمة علاقة خفية غير منظورة بين المبدع وفتاة حسناء "جيسكا لانج " تتراءى له في خياله ،تريد أن تضمه إلى أحضانها هي الموت ، يصر لينهي الإنجاز الفني يتشبث بالحياة ولن يستسلم للنهاية في المستشفى ، ينتزع من جسده تلك الأنابيب، ويغادر سريرة ليهبط إلى سرداب البناية  بين ضجيج المحركات، مقاوما صمت الموت القادم.
 المونتاج هنا هو الذي يقودنا يقطع علينا فرصة الراحة أو التأمل، تأتي النوبة القلبية الأولى في مكان يجتمع به البطل مع المنتج وزوجته وبعض المشتركين في العرض، عند قراءة ومراجعة بعض التمارين، هنا تبدأ الطعنة الأولى والمقاومة الأولى للفنان، يحاول أن يصمد ويقاتل من خلال القلم الوحيد الذي يطعن به المنضدة وكأنه يطعن الموت ، لكن رمحه هذا ينكسر ، تتمزق أحشاؤه تتوقف الأصوات، يبدو الأمر أشبه بالكابوس، ضحكات بطيئة مجلجلة ، أصوات لا يسمعها ، يسمع دقات قلبه المضطربة، يحاول أن يقاوم لكنه يعترف بالمرض فتكون الكارثة، خوف المخرج والزوجة وفشل العرض، كل ذلك يتضامن ويتماهى مع مشرط الجراح وهو يمزق شرايين قلب" جيد دون" ، ويبدأ الحوار والتفاوض مع الموت من خلال الملاك الجميل ، بعد نجاح العرض يمضي إليها طائعا ويستسلم للنهاية تحتضنه ليعبأ بكيس إلى مثواه الأخير.
في الواقع لا نجد في السيناريو حكاية يطول فيها الشرح ،إذ تهيمن الموسيقى والرقص والأضواء لتكون بديلا تعبيريا في الغالب عن الحوار والحدث ،اختار بوب فوس فرقة غنائية راقصة من أجساد ملائكية بحركات ساحرة ، لا تشعر بالأيدي عند تشابكها والأجساد عندما تلتحم وتتعانق في مشاهد حميمية غير محسوسة، الأضواء ترقص، وترسم على الأجساد جماليات لون الحياة، أصوات تصدح بأنغام تنساب إلى الأعماق مع إيقاع العنفوان والحيوية ،لكن الموت الجميل يمضي من خلال المرض ،جيد يون يرفض المرض.. يمارس حياة الصخب ذاتها في المستشفى.. رقص وغناء وخمر وفتيات.. لا يصدق أنه عاجز.. وفي كل مرة يقترب تدريجيا  من حضن الموت، كلما اقترب الاستعراض الأخير.. استعراض الموت.
 هنا نرى الزوجة والعشيقة والأصدقاء وأطباء المستشفى كلهم في مسرح واحد، وعلى المسرح يبدأ الاستعراض الضخم ، والمسرح مكون من مناخ طبي؛ الديكور عبارة عن أضلع، والراقصات يتحركن كأنهن شرايين حية تنبض أو أجنة والصراع هنا مع فتاة بارعة الحسن تلبس كالعروس لكنها تمثل  الموت الذي جاء ليصحب جيد يون معه بالرغم من محاولاته الهروب والمقاومة والتحايل، جسّدها فوس  في تداخل مع استعراض كوميدي لرجل يحاول الفرار من الموت، ويقترح عليه أن يأخذ أمه العجوز بدلا منه..ليس ثمة حكاية ..بل هناك خطان متوازيان للنهاية نهاية الفنان الذي يفني جسده ليقترب من الموت ووصول المنجز الفني إلى الكمال إلى النهاية ، من الصعب وصف المعالجة المذهلة التي قدمها بوب فوس في هذا العمل الرائع ،
 بوب فوس قدّم لنا عام 1972 فيلما رائعا "كابريه " هذا الفيلم الذي فازت فيه الممثلة ليزا مينيلي بجائزة الأوسكار لأفضل ممثلة  وتدور أحداثه في برلين عام 1931 حيث وضع المخرج حياة كاملة في ملهى ليلي : إلا أن فيلمه "كل هذا الجاز"، كان فلسفة بلغة سينمائية تضافرت فيها وسائل الإبداع ( الموسيقى والرقص والألوان ) اختزل فيه  دلالات الزمن الذي يستهلك الحياة من اجل بديل آخر هو الخلق الفني . انتصر الموت في النهاية كالعادة، لكن ما قتل جيد يون بالفعل هو شبقه الشديد بالحياة، وإفناء الجسد بالحرية والفن .وبذلك لم يكن موتا مجانياً
 حصد الفيلم أهم الجوائز في مهرجان أوسكار  1979  كان أهمها أفضل إخراج - أفضل تصميم ثياب - أفضل مونتاج - أفضل موسيقى.. كما حصل على جائزة السعفة الذهبية بمهرجان كان 1980.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. ًWaleed Abdul Hameed

    شاهدت الفيلم عدة مرات وفى كل مرة كنت أشاهد الفيلم اشعر بمتعة ودهشة المشاهدةالأولى, إستمتعت بالنقد الفنى للفيلم, وشرح تفاصيله بشكل رائع

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

وفاة ديڤيد لينش فنان الرؤى المميّزة.. وأيقونة السينما الاميركية

السينما كفن كافكاوي

مهرجان الجونة السينمائي يعلن عن مواعيد دورته الثامنة

مقالات ذات صلة

وفاة ديڤيد لينش فنان الرؤى المميّزة.. وأيقونة السينما الاميركية
سينما

وفاة ديڤيد لينش فنان الرؤى المميّزة.. وأيقونة السينما الاميركية

متابعة المدىوديفيد كيث لينش صانع أفلام وفنان تشكيلي وموسيقي وممثل أمريكي. نال استحسانًا لأفلامه، والتي غالبًا ما تتميز بصفاتها السريالية الشبيهة بالأحلام. في مسيرة مهنية امتدت لأكثر من خمسين عامًا، حصل على العديد من...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram