هذا موضوع يحظى بدراسات أكاديمية كما يكتب فيه بعض الأدباء وبينهم المتأدبون. للباحثين الأكاديميين شروط عمل أساسية منها المراجع والتوثيق. وهذا أمر مطلوب على ان يكون سبباً وطريقاً للاستنتاج ولا يظل تجميع أقوال ونصوص ، أيضاً لا يكون توليفاً. إن دراسة لتار
هذا موضوع يحظى بدراسات أكاديمية كما يكتب فيه بعض الأدباء وبينهم المتأدبون. للباحثين الأكاديميين شروط عمل أساسية منها المراجع والتوثيق. وهذا أمر مطلوب على ان يكون سبباً وطريقاً للاستنتاج ولا يظل تجميع أقوال ونصوص ، أيضاً لا يكون توليفاً.
إن دراسة لتاريخ الشعر في العراق لابد من أن تكون دراسة مقارنة بكامل الشروط العلمية . الكتابات الفردية في هذا الشأن دوافعها مختلفة وغالباً ما تكون ذات منحى شخصي ،وهذه يمكن ان تقابلها كتابات معترضة ، شخصية أيضاً . العلمية غائبة في الأحوال كلها.
نحن بإزاء هذه الحال ، بحاجة إلى كتابة علمية تأخذ بالامتياز الاكاديمي وروح الحداثة العقلانية لا الإنشائية النقلية مما يطغى عادة في الكتابة الصحفية. ولكي نؤسس لما نتمنى من علمية وروح حداثوية ، نحتاج لأن نستعين بالمراجع الحديثة من دراسات ومن نظريات النقد الحديثة لنؤسس منطلقات صحيحة لا كلام حماسات . المستقبل يريد حقائق علمية وتوثيقاً لا إنشاءً وادعاءات.
ولذلك سأحاول تجربة جديدة ، ربما يُذكر اسمها أول مرة ، وهي اجتهاد شخصي. هذه التجربة هي : التاريخ المقارن للأدب وليس تاريخ الأدب المقارن. معنى الكلام أننا ندرس معاً تاريخ أدب أو تاريخ شعر ضمن الحداثة العراقية العربية العامة والحداثة العالمية ،ومادامت الحداثة الشعرية العراقية قد برزت بتأثير الحداثة الغربية ، فليكن أُنموذجنا الداعم من هناك. ولأسباب موضوعية سأستعرض تاريخ الحداثة الشعرية في أمريكا لنرى مقابلها تحولات الحداثة الشعرية في العراق ، من دون ان ننسى ان تلك وراءها التجربة الإغريقية والمسيحية وعصر النهضة ونتاجات وأحداث القرن السابع عشر- العشرين .
والتجربة الثانية الشعر العربي القديم والإسلامي ، الأموي العباسي وبخاصة القرن الرابع الهجري واجتهاداته وحتى القرن العشرين فاختلطت بالتجربة الغربية. اتضحت المؤثرات الغربية ، والروسية، بعد الحرب العالمية الثانية ،إذ شهدنا بداية التجديد في الشعر الإنكليزي أولاً ثم الأنكلو أمريكي والفرنسي ووجد الألماني خلال الثقافة الأدبية والفكرية أكثر من الشعرية حتى وصلت ترجمات غوته وهاينه وريلكه والشعراء الذين أفرزهم القرن العشرون.
الكتابة الأدبية "الأمريكية" في أمريكا بدأت بتبني فكرة تعبر عنها مقولة فورد مادوكس فورد Ford Madax Ford : "خلق نوع من الاهتزاز من ذلك الذي تحمله المشاهد الواقعية في الحياة وبهذا نعطي القارئ انطباعاً بأن شيئاً حقيقياً يتخلل تجربته القرائية او معايشته للنص وإنك تضع القارئ بين شخوص القصة أو في جو القصيدة. وهذا يمكن نقله بـ الإحضار وبالإحضار ومرة أخرى بالإحضار ( )by presentation and by presentation and again by presentation "مادوكس: عن الانطباعية".
الكتابة الأدبية الحديثة في أمريكا بدأت في هذه الفكرة . حركة الصوريين imagists في السنوات التي تلت الحرب العالمية الأولى كانت بدافع من تأكيد فورد على الإحضار وتأكيد هيولم T.E.Tulme على الكتابة في الصور images. شغلت الشعراء الأمريكان منذ ذلك الوقت. طبعا ليس جميع الشعراء الأمريكان ،فهناك من ظل يصف ويكشف أو يعبّر عن حالات الحياة العامة وثوابتها. لكن من أعطوا الشعر الأمريكي صفتَه ومنحوه اختلافاً عن الشعر الإنكليزي ، هم الصوريون.
ما هو الفرق الأساس بينهما؟ الشعر الإنكليزي كان وسيلة خطاب. وكان الكتّاب الإنكليز معنيين بالماضي أو يثقلهم عبؤه كما تعنيهم مكانتهم في "التقليد الأدبي" Tradition بينما كان الأمريكيون يؤمنون ، كما قال والاس استيفنس ، بأن الشعر ليس نشاطاً أدبياً، إنه نشاط حيوي Vital . وهكذا صرنا لصْق الحياة وليس لصْق "التقليد" .
المرحلة الثانية، أو الحركة الثانية، أحدثها وصول و.هـ.أودن W.H.Auden مهاجراً إلى أمريكا تسبقه سمعة متمرد .وكان كثيرون يعرفونه شاعراً يسارياً وأن تكشف بعد زمن انه قطبٌ من أقطاب التقليد . لكنه بعث حيوية يومية بحكم كونه صحفياً وكاتباً وشاعراً مرموقاً وصاحب حضور خاص ويمتلك براعات شعرية مدهشة وثقافة أدبية واسعة.
وكان لشعره مذاق خاص مُحبب ولا يدانيه أحد من الجدد في مهاراته التعبيرية الخاصة ، نظماً وأساليب كتابة . لكن ما يعوز أودن كشفه مجيء ديلان توماس في جولته الأمريكية. تدفق من توماس الزخمُ العاطفي ، في الموسيقى والكلمات، في ترادف وتقاطع إيقاعاته وتنوعها ، مهما كان وراءها من معنى أو لا معنى . فوُصِفت القصيدة عند أودن بأنها تمرين في العقل وإن الإصغاء لقصيدة ديلان توماس معايشة تجربة .
وهكذا صرنا أمام أسماء : وليم كارولز وليمز ، عزرا باوند ، ديلان توماس ، ألن جينزبرج ، سيليفيا بلاث وروبرت لويل .ولا ننسى إليوت وشخصيته الراسخة بين التقليد والتجديد. وهؤلاء هم الذين أحدثوا ثورة في الذائقة الشعرية .
مقابل هذا ما الذي حصل عندنا؟
بعد الحرب العالمية الثانية ، لا بعد الأولى كما في الشعر الأمريكي ، بدأ التحول من التقليد Tradition إلى عدم الالتزام بنظام البيت الشعري ذي الشطرين. وصحب هذا طبعاً عدم الالتزام بعدد التفعيلات في كل "سطر". وصار للقصيدة موضوع تتحدث عنه لا تجميع أفكار وخواطر. والنقطة المهمة الأخرى ، بدأت الاهتمام بمفردات الحياة اليومية والابتعاد عن الإسراف اللفظي والغنائي واتضح في مرحلة التحول هذه تأثير الشعر الإنكليزي "الجورجي" في ديوان عاشقة الليل لنازك الملائكة . تبعه مجايلاً شعر عربي لغة وإيقاعات "وبلاغة بشكل حديث" للسياب ،مفتتحاً بذلك مدىً جديداً لحركة القصيدة . لكن قصيدته حتى الآن ما فارقت تماماً القصيدة العربية التقليدية . الجديد حصل واتضح والتحول كبير ومهم ولكن القصيدة ما تزال وظلت ذات علاقات تعبيرية وتركيب بلاغي مما يمتاز به الشعر العربي قبل التحولات الجديدة .
اتضح الإيجاز اللغوي والعاطفي والميل إلى العقلانية عند البياتي ، عبدالوهاب الذي اكتسب شخصية شعرية متميزة ،ولكنه كان قد تَبعَ قراءته بين الواقعية والصوفية والرثاء الثوري أو التعبير عن الآسى الإنساني.. ويمكن ان نجد في انتقالاته الفكرية ، الانتقالات التي شغلت ، وربما ماتزال تشغل ، عقل المثقف الحديث في العراق وفي عموم وطننا العربي .
لكن البياتي الكبير كان يكتب ما تحفزه إليه قراءاته فيصهر كل ذلك بامتيازه الشخصي وشاعريته الكبيرة التي لا يُشَك بفرادتها. في رأيي الحداثة الشعرية بدأت بالبياتي. قصيدة البياتي قصيدة جديدة لغة وموضوعاً وصِلةً عالمية.
إن هذا الطريق الواسع الذي تم تمهيده بين الكلاسك العربي وامتداده للعصر والحداثة الشعرية وما رافقها من أحداث سياسية وثفافات مختلفة شديدة التقاطع حد الاصطدام المسلح والدموي والخيبتين القومية والماركسية ، كل ذلك كان كافياً لاستقبال مضامين شعرية جديدة وكسر الحافات التي توقفت عندها التحولات المرحلية .
كانت قصائد الستينيين مختلفة أشكالاً ومضامين وأصوات الحرية الفردية والرفض واضحة ، كما أن النسغ العالمي يُرى واضحاً في نسيجها . ليس صحيحاً أنهم بضعة الأسماء التي برزت . لقد كانت حركة واسعة أفرزت الأسماء التي كانت أقوى وأكثر فعلاً أدائياً وإبداعاً. ميزتهم أنهم فتية متمردون يتدفقون حيوية ومحاولات جادة ، بل منافسات . التذبذبات كانت واضحة بين الأنا والعالم وثمة خصوصية محلية ضمن عالمية عامة .. تقديم جديد العالم كانت رغبة أكيدة وممارسة شعرية ، نقدية وصحفية . كان الخمسينيون آباءً كراماً طيبين فتحوا طرقاً نحن سلكناها إلى آفاق أوسع وأكثر غنى ، فناً ومضامين. الادعاءات الفردية عالية النبرة ، للأسف ، والإزاحات أبعدت العلمية والنقد الموضوعي للظاهرة.. أكد هذا النزوع الحضور السياسي والإعلامي. دراسة علمية للظاهرة تحتاج إلى مرجعيات وتوثيق وأن تتناول مع الشعر السرد والرسم والمسرح ضمن حراك المجتمع في تلك السنوات لا ان يتحدث كلّ عن نفسه مرشحاً نفسه للرئاسة.. لكن هذه الأمور لا تلغي الأهم وهو السعي إلى الاختلاف والتجديد والاستفادة القصوى والسريعة من جديد العالم ، شعراً ودراسات ، كتابات نقدية، وبيانات.. تظل حركة الستينيين حركة تجديدية وهي التي أحدثت التحول الأهم إلى الحداثة والتماسّ بالعالم . مسألة معروفة كل حركة فنية تقوم برفض سابقتها ، لكن ليس صحيحاً ان يكون الرفض ازدراءً . التطور يصنعه التراكم الثقافي ولا ينبت في الريح .
المرحلة التي أعقبت ، ورثت إنجاز الستينيين. وشبابها صاروا على صلات جديدة أوسع بالمنجز العالمي بسبب التوسع الترجمي ووصول نتاجات الكتاب والشعراء والمفكرين من شتى لغات العالم . وصرنا نرى أعمال الشعراء الكبار الكاملة : بودلير، رامبو ، ريلكه ، لوركا ، طاغور ، ايف بنوا ، بورخس ، اوكتابيو باث ، الشعراء الأمريكان والإنكليز من إليوت ، أودن إلى باوند إلى مور وديكنسن إلى الشعر الياباني واليوناني .... وإذا أضفنا إلى ذلك التغيير السياسي واتساع هامش الحرية في القراءة والنشر بما في ذلك رفع جهاز الرقابة والسماح بالنشر الخاص وتدفق المطبوعات الثقافية للمؤسسات ، على اختلاف برامجها وأهدافها المعلنة والمقنَّعة بالثقافة.. كل هذا أوجد جواً يتوفر فيه النتاج العالمي شعراً وفكراً وروايات ودراسات نقدية.
لكن للأسف لم يتيسر للشباب، وبعضهم موهوبون وذوو حساسية عالية ، لم يتيسر لهم وقت للقراءات الطويلة الجادة ،فقد استهلك قواهم الركض من صحيفة إلى صحيفة أو من فضائية لأخرى أو العمل في دوائر الدولة واستكماله بأعمال أخرى لضرورات العيش . لم يمتلكوا وقتا كافياً كما امتلكه الخمسينيون والستينيون الذين كانوا ينهون أعمالهم ويتفرغون للقراءة والكتابة. لم تكن الحياة بهذه السعة ولا فرص الكسب متاحة كما هي اليوم.
أعتقد ، لو أنهم امتلكوا فرصة للقراءة الطويلة الجادة وما استهلكت الحياة أكثر من نصف طاقتهم ، لكنّا أمام حركة شعرية مؤثرة. صعب تجد بينهم من قرأ الحرب والسلام أو ديستوفسكي كاملاً أو قرأ من تراثه تاريخ الطبري ومقدمة ابن خلدون أو قرأ تفسيراً أو حتى أساطين البلاغة العرب ومجد القرن الرابع الهجري ...
ولتلك الأسباب ولشيوع الترجمات الشعرية نثراً وبسبب يوميات القراءة وتعقيد الإيقاعات العربية والجهل بالبحور العربية وحضور نماذج من قصيدة النثر في النتاج العالمي ، صار الاتجاه إلى قصيدة النثر ، وهذه حركة حداثوية جريئة وفّرت مساحة واسعة من الحرية وخلاصا من شروط الماضي واقتراباً أكثر حميمية من الحياة اليومية ومن الذات. لكن أن نكتب الشعر نثراً يجب ان يكون اختياراً على علم بالأوزان والبحور لا عن جهل لموسيقى الشعر.
الكتابة الجيدة في منطقة اليوم الذاتي تعني الكتابة في شعرية المدينة الحديثة والإشكالات اليومية لفناني ومبدعي العالم في ظروف العالم الجديدة . شعرية مثل هذه لابد من أن تستند إلى ثقافة جيدة في التراث العالمي والقومي وثقافة أدبية حديثة بالاتجاهات المعاصرة . افتقاد هذه ومنها افتقاد الثقافة السياسية والدراسات الجمالية ، يعني صعوبة ظهور شاعر كبير!
لنكمل فقرات هذا العرض الموجز والسريع ، لابد من الاحتفاء بظاهرة الشعر النسوي لعدد من الشاعرات العراقيات. هذا الشعر محمّل بالاحتجاج ويمتاز بجِدّة تعبيرية لدى بعض الشاعرات . وهو عموماً ، وأن بدا عليه فقر ثقافي، يغتني بالتجارب الشخصية وبقوة تجاوز تبشّر بظاهرة شعرية حية مما يهب المرحلة امتيازاً جديداً ويشكّل إضافة نوعية وهو يبتعد بشجاعة عن الخطاب الذكوري المألوف ...