2
أتى كتاب يحيى الشيخ ( سيرة الرماد ) جريئا في كشوفاته الرؤيوية والعقلانية وتأرجحه بين نزعة الاعتراف وكتم الخصوصيات ،و بين شغف الرسم وهوى الكتابة ، يقاسمه قرينه روحه وجسده رغم تنافرهما ( مرة يكون هو العقل وأنا القلب، ومرة يكون هو الجسد وأنا الروح ) ويحرضه القرين : اترك الرسم فيهجره ويكتب حكايات رعوية ومسرحيات وقصصا مجهرية ويوميات المرسم ومبررات الرسم ( كيف لعاقل ان يترك الرسم بعد خمسين عاما ؟) إنها غوايات الشغف وحصار القرين.
منذ الاعتقال في انقلاب شباط1963 وسفره بعد تخرجه من أكاديمية الفنون للعمل في السعودية مع بسام الوردي وهاشم سمرجي - توالت تجاربه في الرسم والغرافيك والكتابة ، موت الأب الصائغ المتغرب في البحرين نقطة انسلاخ أولى من تقليد راسخ : توريث مهنة الصياغة للابن ، كيف يقحم فنان متمرد ينشغل عقله بالكلمات والرسم و( رموز الحياة وتجريدها) في مأزق كهذا ؟
تسلم الشاب مهنة أبيه في البحرين وانتهى إلى طريق موصد بحقائق صلبة: هو لا يفقه لغة السوق ولا المساومة ، صاغ وتفنن وفشل فترك المهنة لعمه وانغمر ثانية في عالم الفن والرؤى والكلمات وفي بغداد يلتقي الشاعر سركون بولص والنحات فائق حسين ويكابد توهجات الحب التي لم يشأ الإفصاح عنها إلا بإشارة عابرة كدأب الشرقيين في صون خصوصيات القلب.
يواصل التجريب ويعرض أعماله ثم يتألق برسم لوحته الكبيرة المفصلية (الرمانة) التي يعدها منعطفا في جنوحه للمرة الأولى نحو سفح العواطف في اللوحة : الرمانة المحتقنة تبذر حبّاتها على سهول وهضاب تعجّ ببشر هائمين في التيه ،يكتب يحيى( هي عمل ينطوي على ىسريالية تتخفى في رقة الحلم .. اختبرت في الرمانة فاعلية مشروعي الجمالي ) استعادة مرمزة لطقوس عبادة الخصب السومرية.
خلال تجواله الموصول في بلاد الشرق والغرب ولجوئه إلى النرويج من كوالا لامبور كان قد رسم مجموعة لوحات "رسائل إلى الورد" و"ذاكرة العشب" التي انشغل بها طيلة عقد من الزمن وفي النرويج يستدرجه نداء الطبيعة ويتكشف له عالم عجائبي على مفترق حياة طبعها سابقا إمعان يحيى في الخروج : الخروج من البلاد والسفر إلى روسيا بعد زواجه بعام وبضعة شهور( خروجان في آن واحد : خروج من الدين ،فزواجي من مسيحية في الكنيسة يعني إقصائي عن دين الصابئة وخروجي من الوطن ) وفي غربة الخروج ووطأة الانسلاخ ينجز مجموعة مركبة من الأعمال كبيان جمالي لمرحلته تلك ،ويقدمها بمقولة للكاتب التشيكي ( فوتشيك) الذي أعدمه النازيون " كانت حياتي جميلة ولن أفسد نهايتها"
وبين ترحل مستديم يعمل مصمما لمجلة الثقافة الجديدة والهدف في سوريا ثم يغادرها إلى ليبيا للتدريس في كلية الفنون منعتقا من العمل السياسي ليتشبث بحريته النهائية ويكرس روحه( للنشيد الأبدي ) ويستدرج الرؤى رسما وكتابة ويكثف صراحة لغته التشكيلية وبلاغتها في لوحات الأشجار: فالشجرة لديه لا تخفي حقيقتها عطبا أو ازدهارا ولا تدعي عفّة ،ففي لوحة" الشجرة البيضاء "يحط قمر على الشجرة يلامسها فيغدو أخضرَ وتستحيل هي بياضا قمريا ،تبادلاً حيوياً للعناصر دونما خديعة، هكذا تمضي حياة الكاتب الرسام ويتناسخ الوجود فيه وفي أعماله وتتماهى كياناته مع بعضها ليمسك بالجوهر الثمين عبر تجارب مع خامات الطبيعة والنصوص و كشأن الحالمين بالآمال العظيمة يثق أخيرا بأن ( الرمانة) بذرت جيناتها في رحم الأرض لتنجو خلافنا من مصير الرماد.
كتابة السيرة: سيرة الرماد ليحيى الشيخ الخروج من السنن العتيقة: اجتراح الرؤى والمصائر
[post-views]
نشر في: 25 يناير, 2014: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...