بعد ثلاث سنوات على اندلاع أول ثورات الربيع العربي، وبعد عامين من التجاذب السياسي والفوضى الأمنية، أجمعت القوى السياسية وقوى المجتمع المدني على دستور بديل لما كان قائماً، ووُلدت حكومة جديدة، بعيدة عن اللون الحزبي الذي صبغ حكومات ما بعد عهد بن علي، وكان للشارع التونسي دوره البارز في التوافق على الدستور الجديد، حيث انتظم أنصار منظمات المجتمع المدني في تظاهرات ملأت الشوارع، واستجاب لها الإعلام المتحرر من الدكتاتورية، وبما أنقذ التجربة التونسية من الفشل الذي تواجهه تجارب دول الربيع العربي، في الانتقال إلى الديمقراطية حتى الآن، صحيح أن بلد ثورة الياسمين عاشت أزمة سياسية حادة، خلال الشهور الستة الأخيرة، كادت تدفع إلى حرب أهلية، على خلفية رفض التوانسة لتفرد الإسلاميين بالسلطة، واستئثار حزب النهضة بمواقعها الأساسية، وانتهت بتشكيل حكومة مهدي جمعة، ما أكد قدرة الشعب التونسي على التوافق، والانتقال إلى حال من الديمقراطية، بقيادة منظمات المجتمع المدني ذات التجربة العميقة، التي أجبرت حزب النهضة على التخلي عن مشروعه "بأخونة الدولة" والمجتمع، بالضد من إرادة الحرية، التي تمسك بها الشارع وفرضها على الجميع.
بالرغم من أن وفاق التونسيين خطوة إيجابية جداً، فإن بعض المراقبين يرون أنه سيقى وفاقاً هشاً، ما لم تلتزم الحكومة الجديدة بمراجعة التعيينات التي أنفذها حزب النهضة، وحل ميليشيات حماية الثورة، وتطبيق القانون ضد الجمعيات والأحزاب، التي تدعو الى تغيير النمط الاجتماعي للتونسيين، والمعادين للجمهورية، والعمل على تحييد المساجد، والحد من طموحات وزير الشؤون الدينية الجديد، المتهم بميوله إلى الوهابية، من خلال دعوته إلى مراجعة مجلة الأحوال الشخصية، وإحياء قانون الأوقاف الإسلامية، والتنظير للاقتصاد الإسلامي، لكن الأمل قائم بأن تصطدم رؤاه مع بقية الوزراء، الذين لم يسبق لأي منهم تقلّد أي منصب وزاري، وجاء معظمهم من مواقع شغلوها كقضاة وأساتذة جامعيين ومهندسين وخبراء لدى منظمات دولية، ومن بينهم ثلاث نساء، وفنان موسيقي تولى حقيبة الثقافة، والمؤكد ان خلفية هؤلاء، لن تسمح لوزير الدين بفرض أفكاره على الحكومة الجديدة، التي تحظى برضى الشارع، وعدم القبول من طرف حزب النهضة الإخواني.
اليوم تدخل تونس بإرادة شعبها مرحلة جديدة في تاريخها، شعارها المؤسسات الديموقراطية، الضامنة للحرية والكرامة والتداول السلمي للسلطة، وإفساح المجال واسعاً للمشاركة السياسية، وعبر عنها الرئيس التونسي بالقول، إن هذا يوم اكتمال انتصارنا على الديكتاتورية المقيتة التي أطحناها، وفيه نواصل انتصارنا على الإرهاب، الذي حاول عبر عمليات الاغتيال للناشطين المناوئين لأخونة الدولة، إيقاف مسلسل التحرّر الفكري والسياسي، الذي يجسده الدستور الجديد، الذي كتب به الشعب عقداً اجتماعياً جديداً، وفيه تم فرض حكومة جديدة على الغنوشي ونهضته، حيث ظل هؤلاء يناورون حتى اللحظة الأخيرة، وينقلبون على ما تم الاتفاق عليه في الحوار الوطني.
تعبر تونس بدستورها الجديد، الذي ينقل البلاد إلى مرحلة مهمة نحو إنهاء الحقبة الانتقالية، التي بدأت أثناء الثورة التونسية، إلى الديمقراطية في تجربة منفردة، حيث وقف جيشها مع الشعب، لكنه لم يفكر لحظة باقتناص الفرصة، والوثوب إلى موقع الحكم والسلطة، وبحكومتها الجديدة التي يعتبر انبثاقها بصورتها الراهنة، خطوة إضافية في العملية المؤسسة على الإجماع في إطار الحوار الوطني، وبما يسمح بالقول، إن النموذج التونسي يمكن أن يكون مثالاً للشعوب الهادفة الى الإصلاحات، وبما يبعث التفاؤل بالتغلب على حال التخبط السياسي والفوضى في دول الربيع العربي، إن جنحت إلى العقل وتبعت خطى تونس الراهنة، كما تبعت سابقاً انتفاضتها.
تونس وربيع الديمقراطية
[post-views]
نشر في: 28 يناير, 2014: 09:01 م