TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > هل نخاف يا ابو غريب؟

هل نخاف يا ابو غريب؟

نشر في: 29 يناير, 2014: 09:01 م

اننا بشر نشعر بالخوف مثل غيرنا. لسنا شجعانا ولا صناديد كما يشاع، ولكن... يسألني الناس كل يوم ويسألون غيري: الا تخشون من رفع اصواتكم اعتراضا على السلطان؟ ولكي نختبر خوف هذه الايام بعمق، علينا ان نعود الى خوف تلك الايام القديمة. اعقد انواع الخوف المبكر التي عرفتها كانت عند زيارتي مع العائلة سجن ابو غريب عام ٨٧. انا الصبي ذاهب لمواجهة الخال او العم او القريب المحكوم بالمؤبد في "الاحكام الخاصة" او "الثقيلة" على خلفية اتهام بنشاط مناوئ لصدام حسين. احمل حصتي من "الهدايا" وهي في الغالب بعض الطعام المنزلي، الذي نحمله لسجيننا، وانحشر في ممر ضيق وطويل مصنوع من الحديد، يربط بوابة السجن الخارجية بقاعات الاعتقال حيث يلتقي فيها السجين بعائلته. ينحشر كل الرجال في ممر حديدي، وتنحشر كل النساء في ممر حديدي او قفص كبير طولي، مواز. اعداد السجناء داخل السجن كبيرة، واعداد القادمين لرؤية ذويهم اكبر. ويختلط خوف السجان من زخم الزائرين برغبته في تعذيبهم، فيجعله يدخلهم عبر القفص هذا ببطء شديد. قطع الكيلومتر هذا مشيا على الاقدام يستغرق ساعتين، لان حشد البشر عالق لا يتحرك. الآلاف محجوزون داخل القفص ولا يخرج منهم نحو باحات الزيارة سوى بضع عشرات كل ربع ساعة. الدشاديش العربية تلتصق بالشراويل الكردية والجميع قادم لرؤية ابنائهم المعتقلين. ارمق من قفص الرجال عجوزا عربية تحمل على رأسها قنينة الغاز كي تتيح لولدها السجين ان يتناول الطعام ساخنا. وخلفها داخل الحشد المرصوص في القفص، عجوز كردية تحمل امتعة وطعاما وتكاد تختنق من الزحام، بينما جلاوزة سلطان تلك الايام يتفرجون على حفلة السخرية هذه. في تلك اللحظة كل معارضي السلطان مسجونون، داخل عنابر السجن او داخل القفص الذي اصابني انا الفتى بأعقد انواع الخوف. ماذا يعني ان يكون رجل واحد كصدام حسين قادرا على اعلان العراق جزيرة معزولة والتلاعب بمصير الشعب والتشفي به بكل انواع السادية؟ هل هناك شعور بالخوف اكثر من ان ترى نفسك في جزيرة معزولة عن العالم وينفرد بك الجلاد ليسخر منك في حفلات تعذيب متنوعة؟ الممر الحديدي هذا كان رمزا ابشع من السجن. امر مؤلم يظل مستعادا في الذاكرة كلما ظهر صدام حسين على شاشة التلفاز في تلك الايام وراح يتحدث عن العناية الالهية التي اختارته كمدافع عن الامة يذود عن حماها قرب قفص حديدي تحتجز داخله عوائل قادمة من كل العراق لرؤية ابنائها في سجن ابي غريب! وماذا بعد؟ لقد وجدنا ان علينا ان نجرب ألوان خوف اخرى في حقبة ما بعد صدام. خوف المفخخات، والموت المؤلم والاغتيالات والسجن. وخوف التسقيط السياسي وتوجيه الاتهامات الباطلة. وان نجرب كذلك ألوان الاذلال حين يمارس علينا السلطان تسلطه خارج العرف والقانون ويتلاعب بالحقيقة والعدالة ويطالبنا بالصمت، وقد يلجأ الى تخويف بعضنا وتهديده وترويعه كي يصمت كالجبان ويستسلم لشهوات فريق سياسي وعسكري فاشل وغرقان بمياه الامطار وصفقات الفساد ونقص الحكمة وخلق عداوات تهدد بتمزيقنا وهدم المعبد على رؤوسنا. اننا بشر نشعر بالخوف مثل غيرنا. لسنا شجعانا ولا صناديد كما يشاع، لكن خوفنا من العودة الى ذلك القفص الحديدي خلف بوابات ابو غريب داخل جزيرة السلطان المعزولة.. يظل ابشع من خوفنا ان نتعرض لغضب هذا المسؤول النافذ او ذاك المتنطع الذي دخل السياسة بلا اي مؤهلات سوى قدرته على صناعة الشر وبثه. ان الخوف تجربة لا تنتهي بالصمت او الموت او السجن. الخوف سيظل يلازمنا سواء رفعنا الاصوات ام سكتنا. فالصامت الحذر خائف ايضا، طالما كان ناقصو الحكمة والتدبير يحاولون تلبية شهوات استبدادهم وتحويلنا الى مشروع استعباد والتحكم بمصائرنا واحلامنا.
هذا ما كتبته قبل ٣٦٥ يوما، وأجدني اعيد كتابته اليوم.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 3

  1. حسن البغدادي

    اكتشفوا فجاءة اني لست بعثيا وفي وحدة عسكرية ببغداد فقرروا معاقبتي بخنادق (العز والشرف )في جبهات القتال مع ايران , الا ترى يا صديقي لم يختلف الامر كثيرا , ها هم يعاقبوك بمذكرة شرف وهي شهادة اغمطك عليها فالف مبروك ....تحياتي

  2. علي كريم

    العراق بين اللامعقول واللامعقول والعراقيين بين الخوف والفزع هل كان بالامكان افضل مما كان. هل يمكن لشعب بهذه التركيبه النفسيه والاخلاقيه المعقده ان يجد طريقا يفضي به الى المعقول. هل استطاعت الثلاثون عاما من حكم الفرد وتسلطه ان تثير حمية احدا فيصبح رمزا يقو

  3. عهد الوارثين

    الحلول تصبح قليلة ملامح المعضلات تصبح اكثر وضوحاً لقد قتل كل فرصة تصالح حقيقى المواجهة ستصبح اقرب بقريب مما نتوقع السلطة تعتمد حلول بدائية فى علم السياسة فهى تواجة الاكراد بملامح مراهقين وتواجة السنة بملامح المنتقم وتواجة الشيعة بملامح الفقية العارف با

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram