كثير من زوار متحف رايكس ميوزيام في أمستردام يفاجأون ويعلنون استهجانهم مباشرة عند رؤيتهم لوحة ( سيمون وبيرو ) التي رسمها روبنز سنة 1630 ( هناك لوحة أخرى رسمها روبنز حول نفس الموضوع سنة 1612 موجودة في متحف الهارميتاج ، روسيا ) ، أمام هذا العمل الفني ، يهتاج الناس في الغالب قبل معرفة خلفية الموضوع أو الإحاطة بتفاصيله الكاملة . في هذه اللوحة التي تظهر فيها فتاة في ريعان الشباب وهي ترضع من صدرها رجلا كبير السن ، نرى بشكل واضح موضوعا غريبا ،ويبدو غير لائق أيضاً ، وعندما نبحث عن بعض المعلومات التي تتعلق بهاتين الشخصيتين ، ونعرف أن هذه الفتاة الجميلة كانت ترضع أباها ، نصاب بالذهول أكثر . لكن حين نتعمق بكل تفاصيل القصة ، نعرف الحقيقة الكاملة والمدهشة لما حدث ، ونفهم لماذا قام برسم هذا الحكاية أو الحدث عشرات الرسامين من مختلف العصور . سيمون هو والد بيرو ، وقد حكم عليه الرومان بالسجن الدائم ومنعوا عنه الطعام والشراب حتى الموت . كانت بيرو تأتي لزيارته بعد أن سمح لها الحراس بذلك ، وقد كانت حاملاً في ذلك الوقت وبانتظار طفلها الأول . هكذا كانت تزور أباها وهو مقيد في السجن ، بانتظار الموت ولا يستطيع الحركة ، وترضعه من صدرها في غفلة من السجانين الذين لم يتوقعوا حدوث ذلك (يقال كذلك بأنهم كانوا متواطئين معها )، وهذا ما أظهرته بعض اللوحات أيضاً . فعلت بيرو ذلك وهي تبحث في نفس الوقت عن أدلة براءة أبيها ، وهكذا أبقته على قيد الحياة ، حتى أثبتت براءته وخرج من سجنه المظلم . وقد ذكر المؤرخ الروماني القديم فاليريوس مكسيموس حكاية سيمون وبيرو ، وقد وصفها كمثال كبير على العناية بالوالدين بكل السبل المتاحة والممكنة . وأيضاً أعتبرها الرومان شيئاً مشرفاً لتاريخهم .
هل هناك أعظم أو أكثر تشويقاً بالنسبة للرسامين من موضوع كهذا ؟ لقد رسم سيمون وبيرو الكثير من الرسامين الكلاسيكيين ، أغلبهم من فناني القرنين السابع عشر والثامن عشر ، مثل كارافاجيو ، روبنز ، جارلس ميلين ، جوهان زوفاني ، ديرك فان بابورن ، يان يانسنز ، جين غروز وآخرين غيرهم . هنا نرى كيف تعامل رسامون عديدون مع موضوع واحد . ورغم ان كلاً منهم قد نظر إلى الحكاية من زاويته ورؤيته الشخصية ، لكن تبقى وضعية الشخصيتين وحركتهما هي الأساس الذي يعطي الفرادة والتميز لكل رسام من هؤلاء. وهنا نتخيّل الرسامين وهم يجاهدون في جمع التفاصيل التي تساعدهم على تكوين المشهد . هم لديهم الحدث والشخصيتان الرئيسيتان ، ثم المكان الذي هو معبد بيتاس القديم ، وفي داخل المعبد زنزانة مقفلة وحراس أشداء . وهنا ليس مفاجئاً اختيار أغلب الرسامين الذين تناولوا هذا الموضوع ، اللون الأحمر لرداء الأب أو الفتاة ، لإعطاء حرارة إلى المشهد وسط عتمة السجن . كذلك النافذة أو الكوة التي في الزنزانة وشكلها المقوس من الأعلى دليلاً على الطراز الذي كان يستخدم في ذلك الوقت ، وهناك نظرة الفتاة الحائرة التي تتوجس من الحراس أو تنظر بذهول وإصرار إلى المجهول الغامض الذي يشبه عتمة الزنزانة ومستقبل أبيها المظلم .
بقي هذا الموضوع مثيراً ويجذب الرسامين كما ذكرت . وما دعاني للكتابة عن ذلك هو رؤيتي للوحة جديدة للرسام الروسي الموهوب ماكس ساوكو ( ولد 1969 في مدينة أركوتسك ) الذي رسم عملاً مدهشاً حول هذا الموضوع ، ضمن لوحاته الجديدة ( 2013 ) معيداً أمجاد روبنز وكارافاجيو وباقي الرسامين العباقرة ، هذا الفنان المتمكن من أدواته رسم الموضوع بواقعيته المليئة بالسحر والغرابة ، حيث نظرات بيرو الشاخصة وكأنها تنظر إلى عين الرسام نفسه بإصرار وهي تفكر بإنقاذ أبيها الذي تعرض إلى كل هذه القسوة.
الفتاة التي أرضعت أباها كي تنقذه من الموت!
[post-views]
نشر في: 31 يناير, 2014: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...