ضمن صخب الحياة وتقاطعات الأفكار والمصالح يظل في الحياة خطّ حيّ وأبَدي يوجب الاحترام. الحياة لا تعدم "الحياة"، والروح الإنساني حاضر في جميع الظروف والمراحل التاريخية. ولهذا علينا ألا نكلّ من التأكيد على النبل والصواب في الحياة اليومية وعلى حضور النسغ
ضمن صخب الحياة وتقاطعات الأفكار والمصالح يظل في الحياة خطّ حيّ وأبَدي يوجب الاحترام. الحياة لا تعدم "الحياة"، والروح الإنساني حاضر في جميع الظروف والمراحل التاريخية. ولهذا علينا ألا نكلّ من التأكيد على النبل والصواب في الحياة اليومية وعلى حضور النسغ الإنساني في دائم الحياة. هو خطنا الذي نريد ان يتسع ويتقدم. وإن معرفة الاجتماعي المتقدم تتبلور انطلاقا من العادي. هذه "الجزئية" التي نعايش هي إحدى الخواص، إحدى نطاق النمو للحياة. وهي نتيجة، وإحدى نقاط النمو للجمالي المتحقق، كما ستتحقق أمثلة متطورة منه.
بهذا الكلام تظهر قيمة الحياة وقيمة المُسهمات من الأفكار والرؤى فيها ويصبح لكل عمل منجز فكرياً أو إنتاجياً أو فنياً، قيمته العملية في صناعة المستقبل.
كفى تهويماً وتضبيباً لتمرير غير المؤكد. ذلك أقرب للشعوذة، للهو، من العلم ومن الوقائع الحقيقية لتاريخ الإنسان. من يقولون بغير المؤكد، بالوهمي، هم مزاجيون وبلا معتقد راسخ. هم يصطنعون معتقداً آنياً متخَيَلاً على حساب ما هو قائم ويتحرك. على أية حال هم سيتجهون في آخر المطاف إلى مفاهيم أكثر "مردودية". سيقتربون إلى الحياة.
شهدنا أسماء شغلت بعض السنين، بعضها عقوداً، ثم بدأ الانتباه. لا يمكن أن نفهم جيداً حقائق المجتمع إلا بالنظر إلى المجتمع الإنساني كله. بذلك تكتمل المعرفة. ولكي تكون الثقافة مسهمة في التطور، في مواصلة التقدم، لابد من إدراكها بصفتها "كُلّية" محسوسة. التهويم لطيف، ربما جميل مريح، ولكنه ليس فاعلاً. الثقافة المرحلية الجديدة حصيلتنا. مكسبنا الإنساني. هي خطوة التقدم، جهاز الإدراك الجديد. وضمن هذا تقع الطروحات السياسية والأدبية والفنية والاجتهادات الفكرية موضع الاحترام وضمن الإضافة التاريخية. مقابل هذا نضطر إلى إسقاط السلوكيات العاطفية في التفكير. المسيرة البشرية شاقة. لا مجال لفرصة عبث. وعبارة "عبث جاد" إنشاء أدباء. كتّاب العبث وفلاسفته لم يسهموا بعبثهم ولكن قالوا شيئا عن المصير وقدر الإنسان. وهذا يقع ضمن التأملات الحزينة أو الاكتئابية. الاكتئاب له موئل واسع في الأدب عموما، القديم والحديث. هو ما فارق الأدب الإنساني ولسنا ضده تعبيراً.. وإذ نشير بلا اهتمام إلى العبث لابد من هامش مقابل لموازنة المنطق. إذ تتوجب الإدانة لمفهوم السعادة التي حصرتها البرجوازية في فضاء محدود، هو الفضاء الخاص. أي أنها حصرتها في الدائرة الفردية. السعادة صارت تعني ربحاً يومياً صغيراً، أي نوع من الربح: مال أو فرصة حب أو إطراء ولكن ليس أفقاً!
لكن هذا اليومي في جانبه الإيجابي يمكن أن يسهم في رسم الحياة الاجتماعية من حيث أن فيه خيطاً للحفاظ على الذات، من ثمَّ على النوع البشري. بروح اليومي يمكن مقاومة العرف والهيمنة الموروثة وأي سلطة. إذن نفهم الفرد بوصفه وحدة اجتماعية فاعلة لا تنحيته، لكن لا نعطل الفعل الجمعي لأجله..
وعلى هذا لا بأس بأي صفة يتضمنها مفهوم السعادة الفردية شرط ان يمتلك بعدا جماعياً ولا يظل محصوراً باليومي وإبهاجه الآني. أخلاقيات اللحظة اقرب للسياسي وقبله التاجر منها للفنان أو المفكر. والعمل للمستقبل يعتمد الجمالي والفكري معاً. ومن هنا العناية الخاصة بالفنون والآداب والأفكار. لكن حتى اعتماد الجمالي والفكري، شرط الاعتماد ان يكونا بعيدين عن الاستلاب والإكراهات والآنية الفردية العابرة. أي ألا يكونا ضد الإنسان حراً، إلاّ أن يكون لهما فعل رجعي في تشويه الحياة وإعثار حركة المستقبل. الإنسان، في كل حال، ينظر إلى الكمال في المستقبل كما يقول اوكتافيوباث. والفرد، سعيداً أو محبطاً، ليس وحدة معزولة، هو لا يمكنه الوجود الكامل إلا بتحمله دوره في جو وحدوي وتآزري وضمن حركة الحياة متقدمةً في الزمان. ضرورة الإسهام في الحاضر سببها هو الذي يرمم الماضي حتى تكتمل أفعال التحول، فيسقطه! البشرية لا تسمح بفراغ. والإسقاط غالباً ما يتم بفعل حضاري تأديبي.
الخطأ الذي يتكرر هو أننا حين نقول المستقبل فكأننا نقصد تركيباً مادياً ينتظرنا في مكان. أولاً المستقبل لا نهائي. وثانياً هو وصف أو تسمية أُخرى لاستمرارية الحياة على الكوكب بعد زمن الكلام.
لا المسيحية ولا الإسلام ولا التوراة أو الزرادشتية حكمت على المستقبل بالموت. الحكم بموت المستقبل صناعة، إنشاء لا كلام مفكرين. هو ما أوردته العقائد. العقائد كلها أرادت مستقبلا افضل وجزاءً كريماً باذخاً للعمل الإنساني النافع وإرادات التمهيد الأمين للمستقبل. وكلها حذرت من إرباك الزمن بالسوء أو الخطأ، الذي أسمته إثماً. وهو إعاقة نمو المزايا الإنسانية الفاضلة التي تحفظ سلامة الحياة، سلامة الإنسان اليوم وتكاملَهُ غداً.
إذن نحن ما نزال برفقة الجمال اليومي الذي اشترطنا ليكون جمالا ان يمتلك بعداً إنسانياً يجعلنا نحس بالمحبة أو الارتباط بالآخرين ومشاركتهم في فهم الحياة. ان يكون بعضاً من الاجتماعي المتقدم. فالاجتماعي، بحسب هذا الرأي، هو المحتفى به و أجزاؤه تغدو عناصر للثقافة التي تؤسس للوجود الاجتماعي المتوالد.
ومادام حديثنا محصوراً في الزمن "الحي" وحركته إلى المستقبل، علينا ألا ننسى ان الحضور الفردي، تعبيراً، عملاً، فكراً وسلوكاً هو زمن صار فضاءً ذا محتوى. ولذلك حركة المجتمع وحيويته الدينامية هي حركة زمن أصلا. الزمن يظل تجريداً إذا خسر محتواه الإنساني. إذا لم يشغله الإنسان وحيويته. وحركة الحياة من ناحية ثانية هي حركة مجتمعات.
ولهذا يكون الأدب الإنساني، الفنون ،المبادئ الأخلاقية ،الأفكار وأجهزة الاتصال واللغات العالمية الكبيرة، الإنكليزية، الفرنسية، الألمانية، وسائل للتقارب، للتكافل الإنساني. "هي أدوات ووسائل تآزر وترابط إنساني .." وهكذا يكون فعل الأجزاء ضمن العملية الكبرى لدينامية الحياة وحركتها "الزمنية". بهذا المنظور يبدو فظيعاً فعل الحرب بالنسبة للتقدم البشري لأنها تربك وتعطل الكثير من التآزرات.
يقول ماكس فيبر "... تحرير العالم من سحره ." هذا التحرير يتم بالواقعي، بالعلمي والتقني، لا بالوهم. باحترام الفرد وحدة اجتماعية لا وحدة معزولة تائهة أو غريبة كما أرادت له الوجودية..
قبل التنظيمات، قبل ان تكون للإنسان سلطة كانت حاجته للرمز، لغير المادي، للمتخيل. بعد ذلك صارت الحاجة إلى المادي والعقلاني، إلى العالم المعيش. هنا صار للأمة متخيل جديد. طوباوية عاقلة، إن سمحت التسمية وارتضينا بهذا التعبير الذي يبدو مربكاً قليلا. صار اليومي ذا بعد جماعي، صار سمة ما بعد الحداثة بحسب فيزولي – تأمل العالم-
الأدباء المتأملون، الفنانون الناضجون فكرياً اتضح على أعمالهم الطابع الروحاني. قصائد الحب أيضاً احتفت بالجسد جمالاً ورغبةً في الخلاص، وفي هذه الرغبة جانب روحاني. الخلاص صار حاجة اجتماعية للمعايشة وللتطور، للتقدم الذي أسميناه قبل قليل خلاصاً. الآداب والفنون اليوم، غذاءٌ، مَدَد "للدين" المجتمعي الجديد.
ما سحب الإنسان من تقدمه الطبيعي وأربك المسيرة هو نشوء الطبقة وقبلها نشوء الملكية، فاضطرب مفهوم المستقبل. خطأ كبير آخر هو الاعتقاد بأن هناك مستقبلاً فردياً معزولا. اليوم، وهذا مكسب فكري عظيم، صرنا نشهد انتباهات وأفعالا تعبر عن الوعي بالمستقبل البشري بوصفه قطّاعاً لا أجزاء. مساحة هائلة متكاملة الحركات ضد العرق واللون والجندر ومعها التأكيدات الخاصة على العدالة والضمان الاجتماعي والدفاع المؤسساتي الدولي عن حقوق الإنسان والحفاظ على البيئة والدفاع عن السلم العالمي والوقوف ضد الجرائم والإبادات البشرية. هذه كلها مشاريع عمل إنساني مشترك لحماية المستقبل ضمن النزوع إلى الكمال، الذي أشرنا له بدء الحديث.
في كل هذه الجهود إضافةُ مؤهلات جديدة، أو متجددة، لحماية مسيرة التقدم إلى الأفضل. الثورات تقع ضمن هذا الجهد الإنساني لإيقاف فعل الخطأ أو الشر، مما يوقف أو يعترض حركة التقدم.
أديباً، أعتقد بأن أدباً، فناً أو فكراً لا يمكن أن يحظى بوجود سليم وبصفة "محترم" من غير أن يكون ضمن هذه المسيرة، حاملا روحَها الإنساني المتقدم. الجهود البشرية اليوم، هي لإزالة الاستدارات في الطريق واختصار المسافة للوصول إلى الأفضل ...