TOP

جريدة المدى > عام > هل جلست يوماً مع فؤاد التكرلي؟

هل جلست يوماً مع فؤاد التكرلي؟

نشر في: 2 فبراير, 2014: 09:01 م

إلى عامر حسن فياض لاشك في أن قرّاء الوجه الآخر والرجع البعيد والمسرات والأوجاع وخاتم الرمل وعشرات القصص ، قد رسموا صورة لشخصية كاتبها مأخوذة من بعض أبطال رواياته ،فمنهم من يعتقد أن فؤاد التكرلي قريب الشبه بمحمد جعفر بطل الوجه الآخر رغم أن التكرلي ق

إلى عامر حسن فياض
لاشك في أن قرّاء الوجه الآخر والرجع البعيد والمسرات والأوجاع وخاتم الرمل وعشرات القصص ، قد رسموا صورة لشخصية كاتبها مأخوذة من بعض أبطال رواياته ،فمنهم من يعتقد أن فؤاد التكرلي قريب الشبه بمحمد جعفر بطل الوجه الآخر رغم أن التكرلي قال لنا أكثر من مرة : إن بطل روايته هذه جبان ولا أخلاقي ، وآخرون يعتقدون ان ملامحه قريبة من شخصية مدحت في الرجع البعيد ..والبعض يقول ،إنه توفيق بطل المسرات والأوجاع ، فالاثنان درسا القانون في كلية الحقوق في بغداد ، وتخرجا ليتم تعيينهما بدرجة ملاحظ في إحدى الوزارات .. كل القراء والنقاد يقطعون بأن فؤاد التكرلي وضع صورته في أكثر من عمل قصصي ، ويخبرنا صاحب موسوعة الأدب القصصي في العراق الراحل عبد الإله أحمد أن التكرلي لغز لا يمكن حله ، لأنه كتوم يحرص على ألا يكشف شيئا عن حياته الخاصة . . والواقع أن فؤاد التكرلي مظلوم في كل هذه الصور ، فهو ينطوي في حقيقته على شخصية بغدادية كاملة ، إنه ابن ذلك الزقاق الضيق الذي ينبع من شارع الكيلاني ويتلوى متلاشيا حيث سيد سلطان علي ورأس القرية والحيدرخانة لينتهي بحكايات مقهى حسن عجمي ،وحوارات الأدب والفكر في المقهى السويسري ..يسمع المقام فيستخف به الطرف ، ويعلّق على حوادث الحياة العامة أخطر وأعمق وأكثر تركيزا مما نجده في الكتب .

 

مازلت أتذكر المرة الأولى التي قرأت فيها رواية التكرلي الكبيرة الرجع البعيد .. وأتمثل الآن تفاصيل النشوة التي سرت في جسدي وأنا أتابع مبهورا مصائر أبطالها ، فقد كانت الرواية ورؤية متقدمة شاملة في إنسانيتها ، نافذة في خصوصيتها، عميقة في محليتها ، ضاربة بجذورها في ماضيها ، وهي رؤية أبطالها الباحثين عن العدل الاجتماعي .

عرفت فؤاد التكرلي قبل أكثر من ثلاثين عاما .. تحديدا في بداية الثمانينات .. حين خطوت خطواتي الأولى في مجال الكتابة ..في ذلك الوقت كنت أنشر مقالاتي في مجلة الثقافة التي يرأس تحريرها المعلم صلاح خالص .. هناك كنت أشاهد التكرلي بأناقته الشبيهة بنجوم السينما وهو يجلس يضع رجلا على رجل ينهمك في نقاش حول الأدب .. في ذلك الوقت كان صلاح خالص يبشر بالواقعية الاشتراكية وضرورة ان يلتزم الأدب بالدفاع عن قضايا الناس .. فيما التكرلي يبتسم وهو يرد بكلمات منتقاة عن فوضى الأدب وهذا الكم الهائل من الكتّاب الذين لا وجهة لهم .. ويضرب التكرلي مثلا بالأعمال العظيمة .. وأسمع منه حديثا شيقا عن رواية دون كيشوت التي كنت قد قرأت ملخصا لها في مطبوعات كتابي المصرية .. وتتناهى إلى سمعي كلمات مثل بروست والزمن الضائع.. ولم يكن اسم مارسيل بروست غريبا علي، فقد قرأت عنه في العديد من المطبوعات وكنت أعتقد ان لا أحد من الذين يتحدثون عنه قد قرأ روايته الكبيرة البحث عن الزمن المفقود التي كانت الأجزاء الأولى من ترجمتها إلى اللعة العربية قد صدرت عن وزارة الثقافة السورية ، ولهذا كنت أنتظر زيارة التكرلي الأسبوعية لمجلة الثقافة كي أسمع منه حديثا عن الرواية .. في ذلك الوقت كان التكرلي قد أصدر الرجع البعيد التي لم يسمح بطبعها في العراق فاتفق مع دار نشر لبنانية على إصدارها .. وقد استقبلت الرواية بكثير من الإعجاب وأيضا التوجس كونها تتناول فترة عصيبة من تاريخ العراق وهي مقتل عبد الكريم قاسم . ولأنني كنت حينذاك مشغولا بالأسئلة التي طرحتها رواية التكرلي تلك جازفت ذات يوم وقلت له : اريد ان اجري حوار معك عن الرجع البعيد ، والغريب أنه وافق ،و طلب مني أن أهيئ أسئلتي لنتحاور عنها في زيارته القادمة للمجلة .
بعد أسبوع كنت قد جهزت الأسئلة التي وضعتها أنا والصديق عامر حسن فياض " عميد كلية الحقوق حاليا " ليظهر إلى العلن أول حوار عن الرواية الممنوعة الرجع البعيد في الصحافة العراقية ، وكان المانشيت " فؤاد التكرلي : أمضيت ستة عشر عاما في كتابة الرجع البعيد . ولم يسرني الانتهاء منها فقد كان العمل في الرواية هو لذتي الكبرى " 
كانت هي رؤية فؤاد التكرلي التي أتاحت له سفرا دائما نحو الحرية . وأتاحت لقرائه قدرة مواجهة العالم المحيط بهم ، ولذا نجد التكرلي حين يتحدث عن الرواية في تنظيراته لها، كما لو أنه يتحدث عن عينين تبصران في الظلمة ، كاشفا لنا عن تصوره للرواية وهو يتحدث بحميمية عن هذا الفن :" ملايين الصفحات من الكتابة الروائية على مدى العصور تعبر عن ذواتها وتفصح عن طويات نفوسها وتبثّ أحزانها وأفراحها وتعلن عن أفكارها ومشاريعها وشكوكها .. أي أنها تمارس عملية بوح مستمرة ، عملية البوح هذه جعلت روائيا مثل مارسيل بروست يكرّس حياته ليخرج للعالم ملحمة روائية تجيب على سؤال : من أنا " .
***
كان في التاسعة حين أصيب بأول نوبة ربو ، وكاد يموت تحت بصر والده الذي قال لأمه : لا أعتقد ان هذا الطفل سيعيش حتى عمر العاشرة .. كان ذلك عام 1880 حيث تعوّد مارسيل بروست ان يصعد إلى غرفته الصغيرة يحلم بأن تطبع أمه على وجنته قبلة الخلود إلى النوم .. استلقى على سريره ليلاً يحصي ما كرهه في ما حوله ، ملابس النوم التي يتخيلها مثل الكفن ، و الساعة التي تتوسط الغرفة تعد الوقت مثلما يعده أبوه . يقول جيرمين بيريه صاحب الكتاب الشهير "التخلص من الزمن " الذي ترجمه إلى العربية نجيب المانع أحد دراويش مارسيل بروست " في كل صفحة من ملحمة بروست البحث عن الزمن المفقود كان هناك أشباح غرفة النوم حيث نجد موضوع غرفة النوم كاللحن المعاود يعزف أمام أعيننا ثم يتلاشى فاسحاً للنغم الذي يليه " 
كان شابا غيوراً غضوباً لكنه كان كريماً ساعياً إلى إرضاء المقربين منه .كتب روايته الوحيدة التي تتألّف من سبعة مجلدات، وأربعة آلاف صفحة ومليون ونصف مليون كلمة وأكثر من ألفي شخصية " البحث عن الزمن المفقود، كما جاء في الترجمة العربية التي بدأها إلياس بديوي في نهاية السبعينات وتوقف عند الجزء الخامس ليكمل ترجمة الجزءين الأخيرين المترجم جمال شحيذ عام 2005 ، الذي تمنى لو ان الترجمة العربية كانت بعنوان "في البحث عن الزمن المفقود" ،لأن سباعية بروست هي بمثابة بحث روائي عن الزمن .. حيث تبدأ الجملة الأولى في الجزء الأول بكلمة " زمن " وتنتهي الرواية بهذه الكلمة أيضا .. ويحصي الناقد تشارلز مورجان في " الكاتب وعالمه " المرات التي جاءت بها كلمة الزمن في الرواية لنجدها 1637 مرة .
في مراهقته حرم من لقاء فتاة أحلامه " ماري بيرناداكي التي كانت من أكبر غرامياته التي أخبره أبوه ذات يوم أن عليه ان يقطع علاقته بها بسبب صيت أمها، أدمن الوحدة بناءً على وصايا أمه بالحفاظ على صحته الضعيفة .. بعد واحدة من خلواته الليلية ، جلس في غرفته يقرأ مرتجفا من البرد ،قدمت إليه خادمته سيلين فنجاناً من الشاي مع صحن من الكعك الذي ما أن وضع قطعة منه في فمه حتى غمره شعور بالنشوة ، أغمض عينية ليسترجع ماضياً كان قد اعتقد لسنوات أنه دُفن بين رُكام الذاكرة. أعاده طعم الكعك إلى بيت عمته التي كانت تحضّر له كلّ صباح هذا النوع مع كوب من الشاي. .ليتجه بعدها إلى مكتبه الخشبي يخرج الأوراق ليخط الجملة الأولى في روايته : " كنت منذ زمن طويل معتاداً بالذهاب إلى فراشي مبكرا " 
عام 1913، ظهر الجزء الأول من الرواية بعنوان «جانب منازل سوان» على نفقة المؤلف نفسه بعد رفض معظم دور النشر الفرنسية نشر الكتاب ، والغريب ان أندريه جيد الذي كان يرأس لجنة القراءة لدى دار النشر الشهيرة " غاليمار " هو الذي أوصى بعدم نشرها ، لكنه يعود بعد أعوام ليكتب مقالا في مديح بروست واصفا الرواية بأنها تحفة فنية : " إن معنى رواية بروست ليس ذاتيا محضا ، تبعا لذوق كل فرد وهواه ..فالمؤلف يدفعك منذ البداية إلى سؤال الأسئلة ، وليس فقط الأسئلة الواضحة أو التي لا محيد عنها .. إن القارئ ربما يشكو أحيانا من أن بروست يحجب عنه التفسيرات حتى عندما يسهل عليه أن يفسر ، ولكن هنا يكمن خطأ القارئ في فهم طبيعة الرواية البروستية " 
لم يعتمد بروست على أحد الأساليب المشاعة في الكتابة الروائية، بل صنع لنفسه أسلوبا خاصا و مختلفاً يقوم على الجمل الطويلة والعبارات المكررة والشروح اللامتناهية والتفاصيل المكثفة، ممّا يجعل من قراءة الرواية أمراً مجهداً. لكنّه أراد كما قال لمربيته سيلين أن يدحض مقولة " البساطة تصنع الجمال " ، ليثبت أنّ التعقيد أيضاً قد يصنع الجمال. . ويخبرنا مترجم النص العربي جمال شحيذ في مقدمته للجزء السابع من الرواية : " كنت أقع أحياناً على جمل عملاقة تبلغ 35 سطراً، فأحار في البداية من أين أبدأ، مما كان يدفعني إلى قراءة الجملة مرات ومرات. وأحياناً كنت أقطّع الجملة جملتين أو أكثر.. أما الصعوبات المتمثلة بالإحالات التاريخية أو الفنية أو الفكرية، فكنت أحلها بالعودة إلى القواميس والموسوعات. وإزاء بعض الجمل الضبابية كنت أسأل أصدقائي الفرنسيين، وفي غالب الأحيان كانوا لا يفهمون بروست أكثر مني، فألجأ إلى تشجير هذه الجمل كي تتبدّى روابطها ومفاتيحها في المحصلة. وتفنن بروست في تلوين جمله وهندستها، فتارة هي حلزونية، وطوراً هي إهليلجية، وأحياناً مستقيمة مثل الألف الحق، وأحياناً أخرى هي جرفية تشبه تضاريس أرض تركت فيها البراكين كثيراً من النتوءات والمهاوي. ومما جعلني أقدم على هذه الترجمة هو إعجابي بعبقرية هذا الرجل الذي سمّاه البعض ملاك الليل" . 
يكتب صاموئيل بيكت : أن القارئ لملحمة بروست هذه لا يمكن له أن يمرّ سريعاً على المقاطع التي يقف فيها الروائي عند الأحاسيس التي ترزح تحتها شخصياته" علماً أنّ معظم شخصيات الرواية مستوحاة من أشخاص عرفهم بروست وعاشرهم وعايشهم في حياته، لا سيما من قلب المجتمع الاستقراطي الذي عاش فيه. وفي لحظات معينة، قد تتحوّل الرواية في عيون قارئها إلى آلة تصوير تلتقط أدق المشاعر ، لكنّ بروست، الرجل ذا الحساسية المفرطة، انتبه إلى خطورة انفلات الزمن من بين يديه. وبدلاً من أن يترك للزمن فرصة أن يتتبعه، ارتأى أن ينقضّ هو على حركة الزمن ليصطاد منها اللحظات الهاربة .
ولعلّ البعض يسأل كيف يمكن ان نقرأ رواية بكل هذا التعقيد؟ يجيب الناقد الشهير هارولد بلوم في كتابه "كيف نقرأ ولماذا" قائلا :" كيف نقرأ رواية بروست بصفة خاصة .. نقرأ بحب إذا كانت قادرة على إشباع حب قارئ ، وبغيره لأنها يمكن أن تكون صورة لمحدودية الإنسان في الزمان والمكان ، ومع ذلك يمكن ان تعطي أنصار بروست بركة المزيد من الحياة " 
يبرع بروست في رسم الشخصيات عبر تصوير دواخلها. ولأنّ قرّاء بروست عرفوا أن شخصياته مستقاة من الواقع، صاروا يحاولون في كلّ مرة إسقاط الشخصيات الروائية على شخصيات عاشت معه، قائلاً: وهذا ما كان يُزعجه لأنّه أراد لشخصياته أن تظلّ محصورة في عالمها الروائي كشخصيات قائمة في ذاتها.
******
فؤاد التكرلي يقول في الحوار الذي أجريناه معه :
هل تعرف ما معنى كتابة رواية رديئة ، يقول مارسيل بروست لصديقه مورياك : " إنه الابتداء بموضوع كبير ، على أمل ان ينتج هذا في النهاية المشتقات الضرورية من الشخصيات والحوار ..لأن تفكيراً كهذا يؤدي إلى رواية رديئة حين يتجاهل الكاتب الأشياء الصغيرة وتوافه الحياة في سبيل ملاحقة التفاصيل المنطقية لفكرته الكبيرة .
العام 2007، المكان أربيل ،المناسبة :أسبوع المدى هناك التقيت للمرة الأخيرة بمعلم الرواية العراقية ، كانت صحته هي أول ما سألته عنها فغمغم بما جعلني أتوجس بأنه ينتظر النهاية التي حاول محبوه وأصدقاؤه الفرار من توقعاتها المقبضة .. كنت أنظر إليه وهو يكاد يجرّ قدميه ، وقد هزل جسمه إلى درجة لافتة ، وبذلت أقصى جهد كي لا تخونني دموعي ، في ذلك اليوم ابتسم لي وهو يسألني:هل قرات "الأوجاع والمسرات "؟ . كنت قد قرات الرواية منذ سنوات وهالني قدرة الروائي على تصوير الأحداث .. حتى أنني قلت له : في المسرات والأوجاع كنتَ تصوّر لا تكتب .. علت وجهه ابتسامة شاحبة .. سرعان ما اختفت عندما بدأنا نتحدث عن الرواية قلت له : بطل الرواية توفيق كان مغرما بتولستوي ودستوفسكي .. فيما أنا كنت أتصور أنك مغرم بفوكنر وملحمة بروست الزمن الضائع ، صمت قليلا ثم تحدث ببطء شديد قائلاً: كنت قد قرأت تولستوي ودستوفيسكي في الخمسينات ، لكني شغفت أكثر بتشيخوف .. الغريب وأنا في تونس أعدت قراءة تولستوي بشكل خاص فاكتشفت أن تخطيط الرواية عنده غير منظم ولا متسق ، قد تجد عشرات الصفحات في الحرب والسلام تنفق في وصف شخصية من الشخصيات وصفا دقيقا ، في حين أنك لا تجد هذا عند مارسيل بروست أو فلوبير حيث عندهم كل شيء منظم بدقة وليس له طول ، يذكرك بالسهول الروسية الواسعة 
كان التكرلي يتحدث وهو يراقب ما يدور حوله في صالة فندق شيراتون أربيل ، يدقق في الوجوه ثم يشرب استكانة الشاي ، بعدها يحدثني عن مشروع روائي جديد يحضّر له .. يصمت قليلا ثم يتحدث بهمس " كنت كلما أجلس قرب والدي الشيخ ممسكا بكفه ذات العروق الزرقاء البارزة ، أحس بقدوم الغياب قبل وقوعه ، مما جعلني وأنا في سن الطفولة تلك أتشبث بالأشخاص والأشياء إلى النهاية .. هل يمكن ان تصبح هذه اللحظة مستهلا لرواية " ؟سألني .. قلت له إنها لحظة تشبه لحظة استحضار طعم الحلوى عند مارسيل بروست .. ضحك قليلاً ثم سرح وكأنه يتأمل عالما يضجّ بالأشخاص ، يسألهم عن أحلامهم، يصغي إلى آلامهم وحكاياتهم، ويترفق بهمومهم وعذاباتهم، ويحضر أفراحهم.. ثم يمسك قلما ليخطّ الجملة الأولى 
ماذا يبعث فينا الماضي حين نسترجعه ؟ لقد عرفت ذلك الساعة ، الآن منذ لحظات حين قرأت ما كتبت قبل أيام ، إنه يعرض حياتنا بسكون وهدوء ، وهو في عرضه هذا صامتاً .. ساكناً ، يهمس ولا يرفع صوته ويترفق بنا ولا يقسو . هذا هو كل شيء يسمّى الماضي .. لعليّ سعيد الآن ،إذ لم يمر ما يزعجني نهار اليوم ، فلقد قضيته في البيت لم أخرج قط " .
****
في أواخر أيامه شعر بروست بصعوبة في الكلام .. حين زاره أندريه جيد وجده شاحب الوجه ، مرتجفاً برغم أن الجوّ لم يكن بارداً، فيكتب : أعتقد أنها النهاية ،فقد وجدته مريضاً للغاية ، قبلها بأيام كان فرانسوا مورياك قد أجبره على تناول الطعام بصعوبة فيما بروست يقول لضيفه : لا تتصور كم كنت قريبا من الموت " قال لمربيته: حان الوقت "لمناداة الأطباء"، كان يهمس بصوت مضطرب :أمي ، ثم دخل في حالة غيبوبة .. يسرع أصدقاؤه إليه فوجدوه هادئا فاتحا عيونه ممسكا بيد شقيقه الذي طالما تحدث معه عن الماضي، عن أبيه عن أصدقائهما القدماء .. لم يستمر طويلا في تذكر الزمن ،فقد كان شبح الموت أقرب إليه ينظر جان كوكتو إلى المدفأة التي تكدست فوقها دفاتر " البحث عن الزمن المفقود " ليكتب بعدها في رثائه " للأسف كان يسبق عصره ، إنه مثل ستندال الذي لم نعرف قيمته أثناء حياته .
في 12 شباط 2008 ،وفي غروب لا يشبه غروب بغداد..وفي لحظة تتداعت فيها الأمكنة والأزمنة ينهي فؤاد التكرلي الفصل الأخير من رواية حياته وهو يلقي النظرة الأخيرة على عالم شرس كله قسوة وأوجاع .. وهو يفتش عن حكاية جديدة يروي فيها شقاوة الأصحاب وترف الأمسيات . يكتب تشيخوف في دفاتره السرية : " ها قد حلّ الليل الآن ولا أستطيع النوم .. سأذهب وأستلقي. هناك حكمة تقول إذا ما تخيّل المرء قطيع شياهٍ يركض, ثم صوّب انتباهه عليه, سيضطربَ ، الخاطر ويخلد المرء إلى النوم, وهذا ما سوف أفعله ."

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 2

  1. إنعام كاف

    شكراً للكاتب علي حسين على هذا المقال الممتع والعميق. ليت كل الصحافة الثقافية كانت بهذا المستةى.

  2. كه يلان محمد

    مقال جميع ورائع يجمع بين حياة شخصيتين وهما قدلعبا دورا كبيرا فى النهوض بالرواية وأساليب الرواية (مارسيل بروست) الذى قد بنى روايته على ماتركه أسلافه من الأعمال الروائية العظيمة وهو قد قدم ملحمة كبيرة كذلك فنحن نعتقد بأن فؤادالتكرلى لايقل شأنا ومكانة من الك

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

في مديح الكُتب المملة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

كوجيتو مساءلة الطغاة

مقالات ذات صلة

علم القصة: الذكاء السردي
عام

علم القصة: الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الاولالقصّة Storyالقصّة وسيلةٌ لمناقلة الافكار وليس لإنتاجها. نعم بالتأكيد، للقصّة إستطاعةٌ على إختراع البُرهات الفنتازية (الغرائبية)، غير أنّ هذه الاستطاعة لا تمنحها القدرة على تخليق ذكاء حقيقي. الذكاء الحقيقي موسومٌ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram