7
حسبما تقول المصادر التاريخية، أن الجامع الذي حوى على المنارة بناه الخليفة العباسي علي المكتفي بالله (حفيد هارون الرشيد) في شرقي القصر الحسني، وكان يُعرف في حينه بجامع القصر، قبل أن يُطلق عليه اسم جامع الخليفة. حتى هذا الاسم كان عليه أن ينزاح في الفترة الأخيرة من عمر بغداد الأول، قبل سقوطها على يد المغول بزمن قصير، ويأخذ مكانه اسم جامع الخلفاء هذه المرة، الاسم الذي حمله قرابة ستة قرون قبل أن يستقر على اسمه الحالي، كما وقفت أمامه في يوم بارد لكن مشمس من شهر كانون الثاني/يناير 2004، جامع أو منارة سوق الغزل. ألا ترون معي، لا أسم ثابت في بغداد حتى ولو لمَعلَم واحد، لكي لا نتحدث عن الشوارع والمناطق والجسور. ولو كانت الشواهد التاريخية هذه ملكت روحاً أو لساناً لصرخت، وقالت: أتركوني لحالي، لكي لا أضيع بنفسي مع ضياع السماء. لكن ذلك هو ديدن سلاطين وحكام بغداد، كل واحد منهم يظن، أن لن يحدث له ما حدث لجلاد قبله، عندما سيعمل ورثته أو الجلادون الذي سيسيرون على خطاه، على محو كل ذكرى له، خاصة إذا كانوا هم من أطاحوا به، إن ليس عن طريق هدم كل الأبنية التي بناها، فعن طريق تغيير اسمها على الأقل.
الخليفة علي المتوكل بالله كما يبدو أراد عن طريق بناء الجامع هذا ترك بصمته في التاريخ، فماذا يفعل خليفة ضعيف مثله، كان ألعوبة بيد جيش المرتزقة الأتراك؟ أجداده استعمروا شعوباً وأسقطوا مماليك، بنوا مدناً وأمصاراً، شيدوا السدود والقناطر، شجعوا العلوم والفلسفة، وهو الضعيف الذي لا قدرة له والذي اكتشف السُنة والدين ولعاً له أو تعويضاً عن عدم قدرته، لماذا لا يبني جامعاً؟ بيت الحكمة التي أسسها أجداده البعيدون، والتي كانت هي أول جامعة في التاريخ (حتى في موسوعة جينيس للأرقام القياسية)، أحدثت نقلة نوعية في الترجمة تمهيداً للعصر الإسلامي الذهبي في بداية القرن التاسع الميلادي، تقريباً في 840 م، بيت الحكمة هذه لم تعد كما كانت عليه. الاضطرابات التي عصفت بالإمبراطورية العباسية أثرت على الدراسة فيها، لم يعد يأيتها طالبو المعرفة والعلوم من كل مكان. بغداد نفسها كفت أن تكون عاصمة ثقافية للعالم، قرطبة وغرناطة أخذتا مكانها، ولكن خليفة ما يجب أن يترك شيئاً يخلده، يستطيع مثلاً أن يبني جامعا، لا أحد يعترض على ذلك، حتى الأتراك سيباركون ذلك، جامعاً يُشار له بالبنان، سيكون بمثابة الجامع الرسمي للإمبراطورية العباسية التي فقدت هيبتها، أصلاً منذ عقود، منذ أن كف الخلفاء عن الاهتمام بالعلوم والترجمة، على عكس ما فعل أجدادهم الأولون: أبو جعفر المنصور، هارون الرشيد والمأمون. الأول عُرف بعنايته بنشر العلوم المختلفة ورعايته العلماء، الأمر الذي جعله يؤسس بيت الحكمة في قصر الخلافة ببغداد، لتكون مركزاً للترجمة إلى اللغة العربية. الثاني تطورت الجامعة في عهده إلى مدى بعيد، بعد أن أتت إليه دفعة كبيرة من الكتب بعد سيطرته على هرقلة وإقليم بيزنطة، والذي أوكل إلى يوحنا ماسويه مهمة ترجمة الكتب، لتضم بيت الحكمة بهذا الشكل إلى جانب المترجمين: النسّاخين والخازنين الذين يتولون تخزين الكتب والمجلدين وغيرهم من العاملين. الثالث بلغ نشاط بيت الحكمة ذروته في عهده، خصص لها المال الكثير، وكان يشرف عليها مباشرة، يختار من العلماء المتمكنين من اللغات، بعد أن أستقدم من قبرص خزانة كتب الإغريق بكل ما حوته من كتب في الطب والهندسة والحساب والفلك والفلسفة. "صحيح أن بيت الحكمة ظل قائماً حتى اجتياح المغول لبغداد، إلا أنه أفل مع مرور الوقت ومع أفول نجم بغداد، حتى أصبح مجرد مكتبة تحتوي على ما يزيد على 300.000 كتاباً في مختلف الأصناف، دمرها المغول كلها". بعد وفاة المأمون، أهمل الخلفاء الذين جاءوا من بعده العلم، وشغلوا أنفسهم بالصراع على السلطة والانغماس في الملذات، خاصة بتعدد الزوجات ومجالس المجون، وأقصى ما قاموا به - لكي يبدون مؤمنين - من إنجاز هو تشجيع أو دعم صاحب المدرسة الفقهية هذه أو تلك، أليس هذا ما قام به علي المتوكل بالله أيضاً.
يتبع
تاريخ بطاقة بريدية
[post-views]
نشر في: 4 فبراير, 2014: 09:01 م