ما كنت لأكتبَ عن بيان اتحاد الادباء في البصرة الذي أعلن فيه عن تعليق فعالياته وأنشطته الثقافية بسبب العجز المالي لدى مجلس إدارته، لولا اني رأيت قبل لحظات مقطعاً موسيقياً راقصاً لفرقة أجنبية، فرقة من عشرات العازفين، حشد من حوريات وغلمان بثياب من حرير وإستبرق وضوء، رقص على أنغامها المئات من الحاضرين. أحسست معه باني مخلوق أثيري نبتت له أجنحةٌ من أنغام لا تحد، خلصت معها للحظات طويلة من متابعة اخبار الفلوجة وداعش، سرمد الطائي ونوري المالكي، البصرة وماء الملح من سدة الخميسية، صوت الجرّافة المسرّفة وهي تسقط العشرات من اشجار النخيل في البستان القريب، انتظار نتائج الدعوى القضائية التي تقدمت بها كتلة دولة القانون للطعن في شرعية حكومة كتلة المواطن ومحافظها الدكتور ماجد النصراوي، والعشرات من المواضيع اليومية تركتها خلفي وأنا أستمع لهؤلاء الذين سأبقى مديناً لهم باللحظات الممتعة تلك.
ما كنت لأكتب عن ذلك الاتحاد الفقير، الذي ظل يستجدي وعلى مر الدهور من تأسيس الحكومات المحلية على تباين وجوه ومواقف القاعدين على كراسيها منذ العام 2003 بل وقبل ذلك أيضاً حتى اليوم، ظل اعضاء مجلس إدارته يستجدون الدينار والدرهم والفلس وكأن الثقافة أسرة معدمة إنما يريدون ستر عورتها بالدراهم تلك، وهنا لا أقول باني اتضامن مع الدعوة لتعليق الانشطة حسب، إنما ادعو لغلق المبنى كله، والخروج واللاعودة منه، ليعلم الجميع ،جميع المسؤولين في الحكومة الفدرالية والمحلية، بان الثقافة ما كانت فعلاً من أفعال الشيطان يوما ما، ولم يكن القائمون على امرها كلاب حراسة أبداً، إنما هي المثل العليا والقائمون عليها رسل معرفة وحراس قيم أبديون، وما أفعالكم في تبديد المال هنا وهناك إلا استفزاز لنا، نحن، أقول: نحن وأقصد شرفاء المثقفين، الذين سقطوا صرعى حبهم للقيم تلك.
بحكم عملنا في الصحافة تمكنا من التعرف على غالبية أعضاء الحكومات المحلية السابقة واللاحقة ويمكننا القول بأنْ ليس فيهم من يُدرك المعنى الحقيقي للثقافة، بل هي بمفهومهم الفعل الرديء للشخص السوي، وما المثقف إلا علماني ، ليبرالي، لا يصلي، شارب للخمر، محب للدنيا، يطيل شعره ويهمل هندامه وهو في ابعد الأحوال شخص غريب الأطوار، لا يمكن الانتفاع منه في العملية السياسية، هذه الصورة التي يرسمها هؤلاء.
ساهم في تركيب الصورة المشوهة هذه نفر من المحسوبين على الثقافة ممن ظلوا واقفين على أبواب المسؤولين، متوسلين الشفيع والوضيع منهم دراهم معدودة، لا تقدّم ولا تؤخّر، من اجل إنجاح المهرجان هذا والمؤتمر ذاك . وهنا حَسِبَ المسؤولُ المحليُّ الذي بيده كيس النقود أن الثقافة وأمرها إنما هي قبضة يده التي إن شاء أطلقها وإن لم يشأ قبضها، وما هؤلاء إلا مستعطون أمام باب مكتبه.ألا تبت أيدي الذين يظنون أنفسهم صناع مثل وقيم وتحضر.
خلال متابعتي للقاعة التي عرضت الفرقة الموسيقية فيها لوحتها الراقصة حيث السعة والأثاث الباهر والجمال وأناقة الحاضرين وبهرج الاضاءة وحشد الألوان التي حلقت بي للحظات في عالم من الرقي والتحضر والنور، كانت عيني تجول في المبنى البائس المتداعي الرطب الذي يتخذ منه اتحاد الادباء مقراً له، تلمست الاعمدة الخشبية بلونها الأخضر الضفدعي، تطلعت عيني في السقف البلاستيكي المغبر الذي ظل يربك مصوري القنوات الفضائية، بحثت في الغرف الكثيرة عن غرفة لائقة بلحظة ثقافية واحدة فلم أجد، وقفت على المقاعد التي لا تذكرني إلا بالمقاعد التي عادة ما تستخدم في الحسينيات ومناسبات العزاء، فتذكرتُ انَّ الحكومة سبق لها أن طبّلت وزمّرت، وعدّت ذلك من إنجازاتها للثقافة ساعة تصدقت على أدباء المدينة بالمبنى البائس الفقير هذا. هناك من يدرك ولو متأخرا أن الثقافة بمفهوم البعض صناعة خرائب.
علّق أنشطتك يا اتحاد الأدباء في البصرة، وأغلق بابك القديم، الذي يفتح لتدخل منه روائح نهر المآسي القذر( نهر العشار) وكن امينا صامتاً على الثقافة البصرية إن أردت النصيحة، هذه حكومات لا ترى في صورتك وصورة أقرانك من المثقفين أبعد من صورة قرّاد في سيرك .