حين يتجمع الناس أمام جسر متحرك بانتظار عبورهم إلى الضفة الأخرى ، فتلك مسألة طبيعية جداً في بلد مثل هولندا المليئة بالجسور التي تفتح وتغلق لتسهيل عبور السفن الكبيرة ، لكن حين ترى عدداً هائلاً من الأشخاص متجمعين أمام جسر متحرك بانتظار مشاهدة عمل فني جريء مرسوم تحت الجسر ، فهذا الأمر جديد ومشوق . والإثارة تكون كبيرة أيضاً حين تدخل إلى إحدى صالات العروض الفنية ولا ترى لوحات على الجدران ، بل تشاهد كل الحاضرين وقد أداروا رؤوسهم إلى الأعلى لرؤية عمل فني مدهش مرسوم على السقف ، وكأنهم ينظرون إلى غيمة في السماء ، منتظرين منها مطراً ملوناً يبلل أرواحهم الجافة بسبب روتين الحياة والفن التقليدي . لكن مغامرتك لم تنته عند هذا الحد ، فعليك مواجهة دهشتك مرة أخرى وأنت ذاهب إلى افتتاح معرض تشكيلي على الشاطئ وقد رسمت جميع اللوحات على أشرعة السفن !! هذا هو ببساطة ما قام به ورسمه الفنان الهولندي خيريت بوستما ( 1932 – 2009 ) ، الذي أتذكره الآن هو وأعماله المدهشة ، حيث تمر هذا الأسبوع الذكرى الخامسة لوفاته ، وهي مناسبة لوضعه في الصورة التي تليق به كفنان مهم ومؤثر . وهنا أستحضر تلك الظهيرة قبل وفاته بفترة قصيرة حيث كنت أسعى للقائه في مقهى بورس أو في مشغله الذي يشبه ورشة تصليح السفن .
وسط المقهى المكتظ ، كنت أتأمل الأفيش المعلق حول معرضه الأخير ، تأملت اللوحة التي في الوسط وبدأت أتهجى بشكل مسموع اسمه المكتوب بحروف كبيرة ، عندها صاح بي صديقي الشاعر موفق السواد الذي كان معي وهو يشير إلى طاولة رجل هولندي يجلس تحت مصباح منخفض محاطاً بدخان سيجارته ( ستار ، بوستما يجلس هناك ) ، سحبت نفسي من الملصق ومددت له يدي للتحية ، بعدها جلسنا نحتسي القهوة ، وقد فهم الرجل بأننا قد جئنا إلى هنا ثلاث مرات للقائه ولم نجده ، تحدثنا عن الفن والصالات والعروض ، بعدها ودعناه وهو يقول ( أحب الحديث مع الفنانين أكثر من الحديث مع النقاد ) قال ذلك وهو يطوي صحيفة المقهى ويضعها في جيب معطفه وعينه على النادل . هذا الفنان غريب الأطوار قام بتغيير المفهوم التقليدي للرسم حين نفّذ لوحاته في الصالات وعرضها في الهواء الطلق ليعطي لعمله الفني المزيد من الحرية ، هو التوّاق إلى ذلك منذ شبابه الأول حين كان يذهب إلى باريس على دراجته النارية .
من الواضح أننا مع أعمال بوستما نستعيد لوحات بعض فناني مدرسة نيويورك ذات الحجوم الواسعة ، لكنه كان أكثر منهم جرأة، وقد عبر النهر الذي حفره جماعة كوبرا ، عبره وحده على أشرعة السفن التي يرسمها ، وقد جمع بين الجرأة الأمريكية والتعبيرية الأوروبية . وفي كل الأحوال فإن فرشاته كانت اكثر عنفاً منهم ومساحاته تتجاوز مساحاتهم ، بحيث أن رسامين مثل كارل آبل أو جاكسون بولوك ، يبدون مثل عشاق متحفظين أمام خطواته الجريئة وهو يسحب فرشاته خلسة نحو أشرعة السفن وتحت الجسور وعلى الفنارات العالية . لقد وصفته الصحافة الهولندية بأنه الرسام العالمي الوحيد المخلص للتعبيرية التجريدية والرسم الحركي . كان حقاً آخر الفنانين العمالقة ، هذا البوهيني المدهش الذي يعزف بعد أن يفرغ من لوحة جديدة على آلة الأوكرديون قرب إحدى القنوات المائية التي يطل عليها مرسمه ، بشاربه الطويل وشعره المجعد وكأنه بحار قديم قد خرج تواً من إحدى لوحات مواطنه فرانس هالس .
ذهب بوستما بعيداً لكنه يظل يثير التساؤلات كما كان يثيرها عند عرض أعماله ، وسنتذكر خطواته دائماً وهو يسير على طريق يعرفه جيداً ، حيث ينفث دخان سيجارته ، ذاهباً إلى مرسمه مبتسماً وهو يحلم بأشرعة السفن التي رسمها وهي تتهادى على القنوات المائية في مدينة خروننغن ، كما تتهادى نادلات المقاهي الصيفية الجميلات في مدينته تلك التي أحبها.
الرسم على أشرعة السفن
[post-views]
نشر في: 7 فبراير, 2014: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...