محمد خضير(1) في المرأبوقفتُ في جانب ظليل من مرأب السيارات الكبير، أنتظر صديقاً واعدني على أن يلحقني في ساعة الصباح الثامنة، كي نستقل سيارة تنطلق بنا من المرأب إلى جهة قصية في الجنوب. ارتفعت الشمس، وبلغ الضجيج أوجه، وكان نفير السيارات المعبأة في المرأب يشق طريقه بين نداءات الباعة في محلات بيع الشطائر والعصائر المحيطة بالمرأب من داخله وخارجه.
انتبهتُ إلى شريط مسجل في محل بائع العصائر يكرر جملة واحدة لا انقطاع لها: ((اشرب عصير نومي بصرة اثنين بربع.. اشرب عصير نومي بصرة اثنين بربع.. اشرب عصير نومي بصرة اثنين بربع..)). طغى صوت الشريط المكرور وسرى في ضجيج المرأب، ثم سكت فجأة، وبدا لي أن حركة المرأب قد توقفت بسكوته، وأن الداخلين إلى المرأب لا يخرجون، والخارجين منه لا يعودون إليه. بحثتُ في الحشود المحشورة عن وجه صديقي، فأعياني الثبات على طلعة نافرة بين الملامح المتجاورة والعيون الحائرة والخطوات المتناثرة، وملأني التوجس بانقطاع سبيلي مع هذا الحشر المسافر، الذي توقفت به حركة السفر. اقترب مني رجل يتلفع بعباءة رقيقة النسج، وعقال مضفور بشعر ناعم، وابتدرني قائلاً: ((هلاّ شاركتني القدح الثاني عند بائع العصير، فقد استغليت أن يبيعني قدحاً واحداً بربع دينار)). وبينما كنا نفرغ قدحينا من عصير ليمون البصرة البارد، سألني صاحبي الكريم: ((ما جهة سفرك؟)). أشرتُ إلى ناحية الجنوب مهمهماً باسم المكان، فهتف الرجل كالملدوغ: ((عجباً! هذه جهة سفري أيضاً)). نظرتُ حولي آملاً أن تصيد صنارتي سمكةَ صديقي في مستنقع المرأ ب الراكد، فلم تفلح إلا بسحب أشنات مشتبكة الجذور بأشنات المسافرين الصائدين. تبعتً المسافر الغريب إلى باص خشبي مركون في طرف المرأب، وحشرتُ جسمي بين أجسام مغطاة بالملح وذرات طلع النخل، تنتظر أن يتحرك بها الباص الجاثم إلى أقصى جهة في الجنوب. (2) الباب المسدود خرج ثلاثة أخوة، كلّ إلى مقصده في أول الصباح، فعاد اثنان منهم إلى البيت في آخر النهار، وارتحل الثالث(الأكبر) إلى جهة مجهولة. وفي صباح اليوم التالي، خرج الأَخَوانِ للبحث عن أخيهم المفقود بين الحشود التي أخذت تتكاثر مثل النمل، وتتكدس أمام بنايات كالحة مسدودة المنافذ والشبابيك. ذهب الأخ الأصغر للسؤال عن أخيه المفقود في استعلامات دائرة البلدية التي يحتشد عند بوابتها المغلقة الباحثون عن قطعة أرض سكنية يبنون عليها بيت المستقبل، فلم يجد له اسماً أو رقماً في قوائم المحظوظين المعلنة على جدران الدائرة الخارجية. وسأل أخوه الثاني الحشدَ المنتظر أمام دائرة الأوقاف تأشيرةَ الحجّ إلى مكة فلم يعثر على مكان مخصص لأخيه المفقود بين أسماء الحجاج. ولما أعجزَ البحث الأخوين في أماكن أخرى، وفقدا أثر أخيهما بين أسماء أهل الأرض وأسماء أهل السماء، خرج الأخ الرابع ليسأل عنه بين الحشود. كان الأخ الرابع مُقعداً, فغافل أخويه النائمين وزلق كرسيه المتحرك خارجاً في وقت مبكر من الصباح. وجد الأخ المُقعد حشداً صغيراً من الأشخاص تجمّع على كراسيه المتحركة أمام بناية شاهقة صمّاء تزري بالبنايات الواطئة حولها، فالتحق بالحشد فوراً. كان الأخ المفقود من أولئك الذين لا يفكرون بالإقامة ساعة على الأرض، ولا بالعروج برهةًً في أقطار السماء، لذا حدس الأخ المُقعد أنه سيعثر على أخيه في الحشد المتجمع أمام حاجز كونكريتي يسدّ بوابة البناية الصمّاء، وينتصب على جانبيه حارسان اندمجا بالحاجز كصخرتين. سأل الشخصَ المتكور في الكرسي الذي يلاصقه في الحشد، فقال مسدداً نظرة حذرة إلى حدقتيه المتسائلتين:((نعم. كان أخوك واقفاً في صفنا أمس وطيلة الأيام التي سبقت. كان محظوظاً أكثر منا, فقد نودي على اسمه من وراء الحاجز، وفُتح باب البناية من أجله وحده، ثم سُدّ دوننا. نحن ننتظر أن يوافينا الحظ كما وافاه)). يبدأ اسم الأخ المفقود بالحرف (ك.) الذي اختصر به فرانز كافكا اسـم بطله (جوزيف ك.) في رواية (المحاكمة). وأنتم تعلمون بقية الحكاية المعروفة بعنوان (القانون) أو(العدالة) التي رواها كافكا في ثنايا روايته تلك، فقد قرأها الأخ المُقعد مرات ونسخها في دفتره، ولن يصدّق أحداً يقول له أن الحظ ابتسم لأخيه دون غيره من الحشد المنتظر أمام حاجز البناية الصمّاء.
خارج العاصمة: من حشود باصورا
نشر في: 16 نوفمبر, 2009: 05:30 م