سامي عبد الحميديحق لي أن اعتبر الرسام الراحل (كاظم حيدر) من ابرز الفنانين التشكيليين في العراق لأسباب عديدة: أولها موهبته الفنية الفذة فقد حباه الخالق الكريم العظيم قدرة فائقة في التخطيط والتكوين والتلوين. وثانيهما، تميزه بأسلوب خاص في رسومه شكلاً ومضموناً. وثالثاً، حسه الدرامي المرهف وتفاعله الحار مع مجتمعه وبيته فكرياً وعاطفياً ورابعها. تفرده في منجزه الفني وعدم محاولته محاكاة الآخرين.
تعرفت على كاظم في لندن عندما كنت ادرس التمثيل وكان هو يدرس الرسم والتصميم في المعهد المركزي للفنون، حيث كنا نلتقي في مقر فرع اتحاد الطلبة العراقيين، وكان ذلك الاتحاد تنظيماً تقدمياً معارضاً للسلطة الملكية بوقتها، وخلال لقاءاتنا قررنا أن نعمل سوية عندما نعود إلى بغداد بعد الانتهاء من الدراسة. وهذا ما حدث فعلاً حيث تم تعييننا مدرسين في معهد الفنون الجميلة.عدت إلى العراق من لندن قبل أحداث 8 شباط 1963 بأيام وتعذر عليّ أن أقدم طلباً للتعيين مدرباً في المعهد إذ كنت أخشى أن أتعرض للرفض وربما للاعتقال بسبب انتمائي لاتحاد الطلبة، وأتذكر يومها كان أعضاء فرقة المسرح الحديث قد قرروا الاحتفاء بي بإقامة سفرة عائلية إلى إحدى بساتين بعقوبة ولكن الحدث الخطير يومها قد حال دون ذلك وأدى إلى تشتت معظم أعضاء الفرقة بل واختفاء البعض منهم عن الأنظار وتعرض البعض الآخر إلى الاعتقال، كان احد أصدقائي وعضو فرقتي يعمل موظفاً في وزارة الإرشاد واستطاع ان يتوسط لدى وزيرها آنذاك (علي صالح السعدي)، كي يأمر برفع المنع عني، وبالتالي تعييني في معهد الفنون وبالفعل فقد تم ذلك ولكنني لم التحق بوظيفتي إلا بعد أن حدث انقلاب تشرين فزالت سلطة 8 شباط، وما أن باشرت حتى بدأت محاولاتي لتنفيذ ما اتفقت عليه مع الراحل كاظم حيدر وكان قد تم تعينه مدرساً قبلي.كانت مسرحية (كنز الحمراء) للإنكليزية جبر الدين سيكس أول عمل مسرحي لنا في المعهد و قد ترجمها الأستاذ عبد الجبار المطلبي بأسلوب سلس وممتع، وكان كاظم يريد أن يحقق في تصميم الديكور اضافة (الزرع الحر) لمفرداته وهي اضافة تحقق تبديل عناصر المنظر المسرحي بسهولة وسرعة وإحلال عناصر جديدة، وكان يريد أيضاً أن يسبغ على مناظره لمسات من صفات العمارة الأندلسية حيث تقع أحداث المسرحية المفترضة في قصر الحمراء في بلاد الأندلس. كنت ازور كاظم في بيته الواقع في محلة تبة الكرد لكي اتابع عملية تصميم لديكور المسرحية، وكان يعرض أمامي وتلك عادته عدداً من البدائل لاختار إحداها وكنت أدهش لرؤيتي تصاميمه لديكورات مسرحيات مختلفة قام بها أثناء دراسته في لندن فأراها لا تختلف عن تصاميم ابرز مصممي الديكور في العالم من حيث الفن والوظيفة.في مسرحية (تاجر البندقية) التي أخرجتها عام 1965 ، للمسرح القومي حقق كاظم حيدر شيئاً من الدقة التاريخية في مناظره حيث أحالنا إلى فن العمارة في مدينة البندقية الايطالية ووضع(الجندول) متحركاً في أعلى المسرح. وفي (انتيغونا) لجان آنوي تصمم ديكوراً تجريدياً وفي(المفتاح) ليوسف العاني فعل الفعل نفسه، متخذاً كما في المسرحية السابقة منصة على شكل حدوة حصان لتكون مكاناً للفعل الرئيس للعمل وهو بذلك يشير إلى ما يشبه الحلقة المفرغة. وفي (الحيوانات الزجاجية) لتينيسي وليامز صمم ديكوراً شفافاً لمنزل أمريكي يتناسب وتعبيرية المسرحية. وفي (النسر له رأسان) لجان كوكتو صمم ديكوراً واقعياً لقصر من قصور الملوك في فرنسا، وفي (ملحمة كلكامش) التي أخرجتها أيضاً للمسرح القومي ادخل(الحرف السماوي) مفردة رئيسة لمناظره المسرحية. وفي مسرحية (الشريعة) ليوسف العاني والتي أخرجها الراحل قاسم محمد لفرقة المسرح الحديث أوائل السبعينيات من القرن الماضي، استخدم مفردات ديكورية طبيعية اشترتها الفقرة من محال بيع المواد الإنشائية، ووضع (الزورق – البلم) في مقدمة المسرح وليس في مؤخرته كما فعل سابقاً في (تاجر البندقية) وفي (هاملت عربياً) التي أخرجتها للحديث استخدم مواد ديكورية توحي للبيئة الصحراوية لساحل الخليج العربي. واذكر يومها اننا ذهبنا إلى عدد من مدن جنوب العراق بحثاً عن تلك المواد مثل (البسط) و(العباءات) و(الأغطية) و(بيوت الشعر) وفي مسرح بغداد وهو مدمر هذه الأيام ينتظر من الجهات المسؤولة في الدولة ان تلتفت إليه وتعيد اعماره فهو مكان يستحق الاحياء، إذ كان يمثل وجهاً مشرقاً من أوجه الثقافة العراقية وتراثاً مسرحياً مشهوداً أقول في ذلك المسرح جعل الممثلين والمتفرجين وكأنهم يجلسون في خيمة كبيرة يستظلون بظلها.لم يكن كاظم حيدر رساماً بارعاً تشهد له رائعته (ملحمة الشهيد) ولا مصمماً للديكور مبتكراً مجدداً وحسب ، بل كان أيضاً مصمماً مبدعاً للأزياء وتشهد على ذلك تصميماته لأزياء مسرحية (كلكامش) ومسرحية(هاملت عربياً) و(واعروبتاه) للكاتب المصري الفريد فرج والتي كان المخرج المصري الراحل (كرم مطاوع) قد كلف من قبل وزارة الثقافة والإعلام في بداية الثمانينيات بإخراجها وكان المفروض ان يشارك في تمثيلها عدد من الممثلين من مختلف البلدان العربية. وبعد أن أكمل الراحل (كاظم حيدر) تصاميم ديكورات المسرحية وأزياءها أوقفت الوزارة العمل ولم يظهر للوجود بحجة ارتفاع كلفته، أما السبب الحقيقي للإيقاف فظل سراً لا يعرفه إلا من أراده.
محطات :مع الفنان كاظم حيدر
نشر في: 12 مارس, 2011: 06:41 م