عواد ناصرالشرفة مكان عال، دائماً، وهو "حوزة" تخص من يحتازها، وجزءاً من ممتلكاته، فهي ملحق قصر أو بناية حكومية أو مطعم، ورجل الشرفة يفرض سطوته على الشرفة وفضائها، حتى لو لم تكن من ممتلكاته الشخصية، أو الخاصة، فتكون الشرفة "حيّزاً" تحت تصرف رجل الشرفة،
ومن معه، ضباط جيش أو شرطة (عسكرتاريا) يراقبون الـ (تحت) المدني متظاهراً من أجل تحقيق مطالب مشروعة أو "غير مشروعة" من وجهة نظر الـ "فوق" المتعسكر في الشرفة رغم أنه مدني، كما ظهر للعين المجردة.رجل الشرفة، دائماً أعلى من الفضاء العام، فضاء الساحة والشارع والزقاق، فضاء الناس التحتانيين.أما رجل الشرفة مصوَّراً، فهو في إحدى حالين: إما شخص في لحظة تجلِّ سعيد كأن يحيي جمعاً من الناس في عيد أو احتفال أو تأييد، وهذا أمر نادر الحدوث، خصوصاً في المجتمعات المتخلفة التي كُرِّست فيها الشرفات لرجال الشرفات (أقلية جداً) ممن يمتلكون أو يحتازون الأمكنة العالية الملحقة بالأبنية ذوات الشرفات، أو الذين تتيح لهم مواقعهم الاجتماعية أو الطبقية أو السياسية أن يوجدوا، في لحظة أو أكثر، هناك، عالياً، في شرفة تطل على ما تحتهم.أو حال ثانية يكون فيها رجل الشرفة راصداً لما تحته من جموع تتظاهر من أجل مطالب عادلة لا تستهدفه شخصياً، لكن شعوره الداخلي يجعله يعتقد أن الجموع تستهدفه لأنه جزء من سلطة حاكمة تهددها التظاهرات الجمعية التي تعبر عن رأيها بأحوال حياتهم المقهورة والمستلبة والمسروقة، ما يهدد، ضمناً مصالحه الشخصية، فيقف في شرفته إلى جانب ذوي الشرفات، عبر التاريخ، وهم يوجهون الحشود، يسيرونها، يؤطرونها، يقمعونها، يضعون خبرتهم إلى جانب خبرة العسكر، أو فوقها، حتى لو كان رجل الشرفة مدنياً، من أجل إفشال التظاهرات وتفريق المتظاهرين.صورة صدام حسين بقبعته الغربية وبندقيته التي يطلق منها النار في الهواء ابتهاجاً، في لحظة تجلِّ عنيفة، وهو يعرف أن جموعاً كئيبة خرجت إلى الساحة، خوفاً أو نفاقاً أو غباء، للتصفيق له ومفاداته بالروح والدم.صورة رجل الشرفة الذي رأيناه قبل أيام هي إحدى مهمات الكاميرات في واجبها الفضائحي، عندما تختلط في وعي المصور غريزة المهني بمشاكسة الفنان.ثمة مفارقة: رجل الشرفة، الفوقي، أمضى حياته تحتياً، وليس سوى صدفة ذهبية رفعته إلى شرفته، فنسي، في فضاء السلطة العالي "تحتيته" مناضلاً من أجل الحرية والتخلص من "المظلومية" ليركب ظهورنا، نحن التحتيين، ويرصدنا من فوق وهو يؤدي وظيفة لا تمت إلى وظيفته الأصلية بصلة، فوظيفته هي رصد الحكومة وخططها، نائباً في برلمان الشعب الذي انتخبه لا رصد هذا الشعب.الشرفة، دائماً، رمز سلطوي عندما يقف فيها شخص يحيي، أو يزدري، الجموع التي تتزاحم تحته، وهي دائماً حصن أمني يبعد رجل الشرفة عن خطر ما تحت الشرفة، كما وقف العقيد القذافي، قبل أيام، خطيباً تكاد لا تبلغه العين المجردة وهو يشتم شعبه بأقذع الشتائم.لهذا، وغيره، يقال للمسؤولين انزلوا إلى مستوى الشعب واقتربوا من نبض الشارع، لأن المسؤولين في الدول الفاشلة يقفون، دوماً، أعلى من الناس، هناك في الشرفات.. شرفات الدولة الفاشلة.تم تجريد الشرفة من وظيفتها الجمالية، الترويحية، في المنزل العائلي على أيدي السلطة التي اتخذت منها فضاء متعالياً يؤدي وظيفة أخرى من ووظائف الدولة القمعية، وقد تعاشقت خمسة مفاهيم، نظرياً وعملياً، في ثقافة السياسيين المستبدين: الوطن والشعب والدولة والسلطة والحكومة وممثل هذا الخماسي وخلاصته هو الدكتاتور: رجل الشرفة.التظاهرات والمسيرات هي قرينة الشوارع والميادين العامة، أي "تحت" الشرفات الخاصة، فهل رأيتم أو سمعتم بتظاهرة قامت في شرفة؟
رجل الشرفة يطل من "فوق" بوليسي إلى "تحت" مدني
نشر في: 12 مارس, 2011: 06:43 م