ياسين طه حافظ هذا السؤال واحد من أخطر الأسئلة في عالم السياسة اليوم. كما هو من أخطر الأسئلة في الأمراض النفسية وأخطرها في عالم الخرافة وصناعة الأساطير.سلطان حاكم والٍ أو ملك يسأل شعبهُ الثائر الصاخب حوله: "من أنتم؟" هو لا يعرفهم. هو يعرف نفسه وحاشيتَهُ
وحرَسَهُ وحساباته. هو يعرف الضباط المقرّبين له والقتلة المحترفين من رجال مخابراته وأمنه.. هو له الصفاء والهدوء وجريان الأمور على ما يرام. الأتباع، الحاشية وحافظو ذلك الأمن والهدوء، لهم جدوى إبعاد الوجوه الأخرى والأصوات النشاز. لهم هبات وحسابات و"مكرمات" كما كانوا يسمونها في العراق.أذكر مرةً وأنا أعمل في "طبرق" ، نشرت مجلة اسمها "لا" كلمةً صاغَتْها بشكل مزْحةٍ لطيفة لتبعد عنها الشر. نشرت هذه الكلمة إثر توزيع الحاكم أنواعاً من السيارات الحديثة على أتباعه من القادة والضباط الكبار فالأصغر منهم وعلى المدراء المهمين.. كلاً ومستواه. فهذا النوع للقادة الكبار وهذا لمن دونهم درجة وذلك لفريق ثالث ... فعقّبت المجلة : "أما نحن، فنحن "البدون" ! وطبعاً في هذا إشارة لمن يعيشون على الحدود الكونية قرب العراقية، الذين لا يعترف بهم مواطنين كاملي الحقوق ولا يُمْنَحون جنسية البلاد ..وبعد ان أنشأ القائد الليبي، بدء حكمه، المجمعات السكنية وهيّأ بعض متطلبات الحياة الأساسية، المدنية، ظن نفسه قد أدّى ما عليه وعليهم الآن أن يخضعوا. لقد جعلته السنوات التي تلت، سنوات الدائرة المغلقة، جعلته من بعد يعيش، لا يرى الناس بوضوح. يراهم، بشراً مدقعاً لا قيمة له في الشوارع، ثم صار يراهم ظلالاً تدبّ وتختفي. هو عقليا، وهو نفسياً ، ما عاد يرى أحداً خارج بلاطه أو مقرات حرسه أو في منشآت النفط. هو يرى ضباطاً وأبراجاً وبواخر تنقل النفط بهدوء وبانتظام. المتوسط هادئ جداً ولا ما يزعج الناقلات. لا يشغل فكره بـ كم ناقلة خرجت من طبرق ولا كم ناقلة خرجت من الزاوية ... العوائد تأتي وهو آمن. وفضلا عن مخابراته، تساعده مخابرات "مبارك" ومخابرات "بن علي".إذن هنالك مراكز حراسة واحد في الشرق وآخر في الغرب، والثالث المركزي في الوسط. ليبيا تنعم بالهدوء بشهادة الجميع. الهيبة كاملة ولا أحد يمسّ الثروة. المتوسط الليبي مزدحم بالأسماك. لا مشاريع صيد كبيرة. واحد صغير في الأقاصي. ذلك يكفي. "لدينا نفط نصدّره لا نحتاج إلى تصدير سمك"! ومدن البلاد الكبرى كلها مدن ساحلية من شرق البلاد إلى شمالها إلى غربها. لكن لا نقل بحري ولا سياحة بحرية، أو برّية. السيّاح يفسدون المدن، الناس هنا على الفطرة. نريد حمايتهم. هي إذن "محميّة طبيعية للبشر" لن يمسّ براءتهم خدش، نحن حراسهم! أكثر من هذا، صقلية على بعد خمسمائة كيلو متر من الساحل الليبي ولا احد يصل صقلية .. هكذا تُحْكم البلاد.هذا الرجل لا يخلو من فطنه ولا يخلو من ذكاء. وهو ظريف حتّى انه يجعل المجزرة البشرية طرفةً تاريخية. إسقاط طائرة بعشرات ركابها فوق سكوتلندة، نكتة اشتهاها مزاج، ولماذا الغضب، نعوّضهم، ببضعة أكياس من الدولارات .. هو بهذا حاكم حقيقي ليس في رأسه غير خيالاته وأفكاره ومشاريع مستقبل ليس مهماً متى يجيء. بعد هذا، ليس غريباً أن يقول أنه يقود " أفريقيا وأمريكا اللاتينية ، بل والعالم! "القذافي وأمثال القذافي، صناعة دولية لعبور مرحلة. اختارته من بين ضباط الجيش الليبي، حين رأوا الملك السنوسي قد شاخ. رأوا هذا الضابط الشاب يصلح لأن يكون "حارس آبار"، وإلى حين يتضج استراتيج آخر. لن يكلمه أحد طوال هذه المرحلة. ما يريدونه منه هو حماية آبار النفط وليفعل ما شاء بشعبه ... وليس من طريق لينام حارس الآبار بهدوء إلاّ بتغييب الناس عن المشهد وقطع كل صوت. إذن هو لسنين طويلة حاكم الأرض الليبية الشاسعة، صحرائها والنفط والبحر. وانه في مقرّه معبّأ رأسهُ بالخيالات والسلطان.ليس غريباً بعد هذا أن يسأل، وهو يرى ناساً خرجوا من جحور بيوتهم إلى الساحات : "من أنتم؟" سؤال مفزع وفيه دهشة إنسان مشوّه في غير عالمه الحقيقي.أيها القائد !هؤلاء بشر من لحم ودم ويتكلمون اللهجة الليبية وهم شعبك الذين تحكمهم، الذين صرتَ قائداً لهم، هم شعبك أيها القائد! لكنه لا يعرفهم ولا يعرف من أين جاؤوا، فصرخ ، كما تراجيديا شكسبيرية، بسؤال حقيقي وعبر المسافة التي كانت فراغاً :"من أنتم ؟ "..صرخ تماماً كما يصرخ رجل يعيش في جزيرة قفر ويرى بشراً يملأون الجزيرة !جانب من محنة البشر و إشكال الحكام تكشفه الصناعة الأدبية: هنا صناعة أسطورة أو صناعة بطل روائي، لا يريده الكاتب خلواً من امتياز الإثارة ومن إثارة الاستغراب أو الحيرة وتعدد التفاسير .. لدينا الآن فسحة لحصول أكثر من رأي ، وطرح عيّنةٍ للدراسة. فهنا إنسان كان اعتيادياً. تسلّط عليه وَهْم فمسح من بصره الدنيا وجعل ناسها ضئيلي الحجوم ثم صاروا يبدون أمامه خنافس أو هوام. صغروا أكثر في عينه، لم يعد يراهم بالعين المجرّدة ، صاروا ، بلغتِهِ ، "جراثيم"! مقابل ذلك، تنا
مَن أنتم ؟
نشر في: 13 مارس, 2011: 05:26 م