طارق الجبوريشهدت مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية تحولاً واسعاً باتجاه تعزيز مفاهيم حقوق الإنسان في المجتمع الدولي ، حتى عد غير قليل من الباحثين ان احد أهم الأهداف التي جعلت دول العالم تتداعى لتوقيع ميثاق منظمة الأمم المتحدة في سان فرنسيسكو عام 1945، كان تأمين هذه الحقوق التي انتهكت في أكثـر من بقعة من العالم بسبب الصراعات والأطماع الدولية ، ما ولد شعوراً بضرورة تحويل هذه الحقوق من مجرد مبادئ ودعوات الى التزامات قانونية شبه ملزمة.
وبغض النظر عن دور هيئة الأمم المتحدة وقدرتها على تعميق هذه القيم في المجتمعات الإنسانية، ومدى تداخل هذه المفاهيم مع مصالح الأقطاب الكبار المهيمنين والمسيطرين بهذا القدر او ذاك على سير أعمال المنظمة ، فإن مجرد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948وفي ذاك الوقت يعد نقطة تحول كبيرة أسهمت ، في ما بعد بإشاعة هذه المبادئ وإنشاء منظمات إقليمية ووطنية متخصصة للدفاع عنها، والتوعية بمواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أشارت مادته الأولى إلى أن (الناس يولدون أحراراً ومتساوون في الكرامة والحقوق..). ومن اجل تحديد واضح لهذه الحقوق، وبما يتناسب والتطورات السياسية والاقتصادية في العالم، فقد تم تقسيمها إلى أنواع منها الحقوق المدنية والسياسية تشمل (مبادئ المساواة أمام القانون والحق في الحرية والسلامة الشخصية وما يتبع ذلك من ضمانات قانونية ضد القبض التعسفي والاعتقال والتعذيب والمعاملة غير الإنسانية والمهنية وحرية الرأي والتعبير والفكر والمعتقد..) وحقوق اقتصادية واجتماعية وثقافية تعنى بـ (الحقوق اللازمة للرفاهية الاجتماعية والاقتصادية والنمو الثقافي للإنسان مثل الحق في التعلم وفي التمتع بمنتجات الثقافة والعلم وفي السكن الملائم والرعاية الصحية وفي التنظيم النقابي..) كما أشار إلى ذلك الدكتور بشير الشافعي في كتابه الموسوم قانون حقوق الإنسان ومصادره .في ضوء تلك المقدمة البسيطة كيف لنا أن نقرأ ما جرى من تظاهرات في العراق بدأت بجمعة الغضب يوم الخامس والعشرين من شباط ؟ وما الذي يمكن ان نستشفه من حزمة الإجراءات التي قابلت بها الأجهزة الحكومية المتظاهرين ومطالبهم في ظل ما نؤسس له من نظام ديمقراطي ركيزته الأساسية احترام الإنسان وحقوقه ؟ ومن اجل الإجابة على هذين التساؤلين لا بد من قراءة سريعة لمطالب الجماهير لنتبين من خلالها مشروعيتها وحدود تطابقها مع مبادئ حقوق الإنسان. لقد أجمل بيان لإحدى المنظمات الداعية للتظاهرات هذه المطالب بتوفير الأمن والأمان وإيقاف الاعتقالات العشوائية وغلق السجون السرية فوراً وتسريع محاكمة المتهمين وإعادة جميع الحقوق إلى جميع المفصولين السياسيين وإعادة مفردات البطاقة التموينية وإطلاق الحريات المدنية وتوفير الخدمات وتحسينها وزيادة رواتب العمال الخ ، وهي كلها مطالب مشروعة ومنطقية ، ما كان للاحتجاجات الشعبية بشأنها ان تتصاعد لولا تضخيم وتراكم الأخطاء التي ظلت ملازمة للعملية السياسية بقصد او بدونه منذ 2003حتى الآن.. أخطاء وصراعات عرضت مستقبل العراق للخطر في اكثر من مرة .وإذا كان المواطن ومعه شرائح مختلفة من الناشطين في منظمات المجتمع المدني وسياسيين ومثقفين ، قد تجرعوا الكثير من المرارة والصبر في السنوات الأولى من التغيير من اجل تدعيم ركائز البناء الجديد للعملية السياسية ، وأوجدوا الأعذار لبعض الأخطاء ،استناداً لقناعات بان ضرورات التحول الديمقراطي في مجتمع كالذي نعيشه تتطلب التأني والحذر لكيلا تستغل من قبل بعض المتضررين من عملية التغيير ، نقول إذا كانت كل تلك الشرائح سكتت في تلك المرحلة ، فإن ما جرى بعدها من ممارسات لم تكن بمستوى الحد الأدنى من طموحات الغالبية العظمى من المواطنين التي سحقتها وهمشتها صراعات النخب السياسية وابتعادها عن برامجها ووعودها ، والأكثر من ذلك فان هذه الجماهير وجدت بعض النخب السياسية التي وثقت بها وسلمتها مقاليد الأمور طواعية ، تحاول الالتفاف على أعزّ ما حصلت عليه من مكسب ، إن لم نقل انه المكسب الوحيد ، ونقصد به حرياتها المكفولة بالدستور ، بل تنكرت لتضحياتها وما قدمته من شهداء على طريق ترسيخ بنيان العملية السياسية وتصديها بشجاعة لمخططات الإرهابيين وإفشالها . وبعد ان عولت الجماهير المحرومة كثيراً على نتائج الانتخابات الأخيرة التي جرت في آذار 2010 وبنت آمالها عما يمكن ان تتمخض عنه من نتائج تفاءلت بانها ستكون أفضل من سابقاتها ، صدمت وهي ترى المشهد السياسي نفسه يتكرر مع سيناريوهات بسيطة، مشهد سياسي مليء بالصراعات الحزبية التي هي أشبه ما تكون صراع قبائل وليس قوى سياسية ، كان من نتائجه إبقاء جلسات مجلس النواب مفتوحة ولم تعقد إلا بعد نجاح رئيس إقليم كردستان بمبادرته ونتيجة ضغط الشارع ممثلاً بمنظمات المجتمع المدني التي أقامت دعوى قضائية على رئيس المجلس بالسن فؤاد معصوم ، وكانت النتيجة حكومة توافقات مترهلة تضم 42 وزارة سميت أو أريد لها أن تكون حكومة شراكة وطنية ، ولكن أي بسيط يعرف ان شروط الشراكة الحقيقية لا تتحقق بمثل هكذا أجواء!إزاء هذه الصورة ماذا كان على الشعب ان يفعل وهو يرى البعض يعمد إلى تشويه مشروعه الديمقراطي وآخر يسعى لوأده ؟ وكيف له ان يتدارك ما قد لحق العملية السياسية من أضرار دفع هو وليس غيره ثمنها غالياً ؟ كان
فـي ضوء تظاهرات الجمعة ..ماذا نريـد ومـا هـو السبيـل لحمايـة العمليـة السيـاسـيـة؟
نشر في: 15 مارس, 2011: 04:55 م