أ.د حسين أمينتهتم الدول بتأسيس القيم الفكرية والإبداعية انطلاقا من كونهما محورا فعالا للحفاظ على عقل الأمة ووجدانها، وبهما تتميز تاريخا وثقافة وحضارة ترقب المستقبل، وتقف على تحولاته، وهي تحولات تصيب الخصوصية في الصميم وما من أمة إلا وتسعى إلى الإفادة من هذين الرافدين (العقل والوجدان) في بناء نظام ثقافي يؤسس لهوية الأمة،
ويشكل الذات العامة ساعيا إلى الاهتداء إلى صياغة تتسم بالتوازن والتمازج والفعالية، ومن ثم يصبح الخلل في التوازن جنوحا نحو التطرف، وباعثا على الغلو في الدين والفكر على السواء، وفي هذا السياق تتجدد المقولة الشائعة: الأصالة والمعاصرة، وتتحول إلى أداء تفعيلي يؤتى أثرا ملموسا في تحقيق التوازن، وإبراز الخصوصية، ولعلنا نلاحظ حرص الأمم على تراثها ولغتها، هذا الحرص الذي يصل إلى تنحية كل وافد لغوي يزاحم اللغة الأم، ولم يقل أحد إن مثل هذا التوجه يوحي بالتعصب، ويتسم بالرجعية.إن الحرص على التراث حرص على الخصوصية والتفرد، ولا ننسى موقف فرنسا الرسمي في محافظتها على لغتها من الدخيل اللغوي، أو انحسارها في بعض الجهات، وهو موقف مجيد يتحدث عنه الشرق والغرب معا.والتراث (اللغة والفكر) علامة على تاريخ له أبعاده وتجلياته التي فاضت على العقل في حضارات الآخر وثقافاته، ومن ثم دخل التراث الإسلامي في سياق التكوين الحضاري العام، وشكل أحد أساسيات التحصيل الثقافي في الفكر الإنساني، ولم يتخل عن دوره الفاعل في الغطاء على تنوعه، وتنامى زاهيا إبان أزمنة الازدهار ، والقوة، والتفتح. وفي السياق نفسه فإننا لا نستطيع أن نتجاهل معطيات الحضارة الحديثة، علما وفكرا وإبداعا، وليس عيبا أن نؤكد غلبة الحضارة الغربية في مجال العلوم والتكنولوجيا، فهذا العطاء إنما هو شارة إلى تكوين عقلي تميز بوفرة آليات وعمق المناهج المساعدة، وليس تمايزا في جوهر العقل ومدركاته، إنه نتاج عام مسموح به. إن التمازج الحضاري سمة من سمات العصر، وإذا كانت الغلبة للعلم ومعطياته الهائلة فإن البناء الثقافي يجب أن يظل متميزا، وعلامة على الأمة وجذرها وقيمها دون أن نغفل الإفادة من حضارة الآخر في المجالات الأخرى.وإذا كانت الحداثة في الغرب قد أفل نجمها فهي في العالم العربي تتطارح مقولاتها بشكل ملح، يصاحبها شطط في التأويل، وتجرؤ على القيم والفكر الديني ودأب لا يكاد لقطع خيوط التواصل بالتراث اللغوي الذي هو حامل للفكر، والحضارة، وقيم الدين.والحداثة كما نبتت في بيئتها نوع من الحساسية تمثل قيما فنية وأدبية معايرة، تجعل العلاقة في مجال الإبداع واشية التنافر، إنها بالنسبة للمبدع الانكليزي كما يقول دكتور عبد العزيز حمودة، تعنى الرفض الكامل للثقافة، بل الفوضى والعدمية.وبرز الفكر الحداثي في مظاهر متنوعة، كالانقطاع المعرفي، فمصادرها تختلف عن مصادر التراث، فضلا عن الفكر العلماني، واستحداث لغة لها خصائص مفارقة، واعتبار الإنسان مركزا للوجود إن الحداثة (رحلة اختراق وانتهاك) متواصلين.ولعلنا نلاحظ على أصحاب هذا التوجه في الأدب الجنوح إلى الغموض والحذلقة، وتنافرات اللغة، وافتقاد النظام وتكريس التخييل الحسي والجنسي وتهميش الدين والتجرؤ عليه، فدخل النص إلى نفق مظلم افقده التواصل ومن ثم التأثي، ولاح النص مجرد حدس لغوي، خاليا من المضمون فأغرى من لا موهبة لديه، بالتجرؤ والدخول إلى النفق!!إننا بحاجة إلى بيت تولد فيه الحكمة، وذلك وفق التوازن الذي يصوغ الذات صياغة سليمة، تبعد بها عن التطرف يمينا أو يسارا، ودون أن يكون ذلك عائقا لحرية الإبداع في مجالاته المتعددة، إذا لا بد أن تتنوع الروافد عبر وحدة تجمعها.ولعل المؤسسة الثقافية تستطيع أن تكون هذا البيت، وهي قادرة على ذلك إذا كرست جهدها نحو التأصيل والمعاصرة معا، وتفرغ المسؤولين فيها لتأسيس هذا البيت الحامل القيم.
تأسيس القيم
نشر في: 25 مارس, 2011: 04:45 م