TOP

جريدة المدى > المنتدى العام > لقاء من غير موعد

لقاء من غير موعد

نشر في: 26 مارس, 2011: 06:41 م

أ.د. حسين أمينعند عودتي من اليمن وصلت إلى عمان استعداداً للتوجه إلى بغداد، وفي صباح يوم السابع والعشرين من شهر كانون الأول كنت أتجول في شارع من شوارع المدينة وإذا بي وجها لوجه بشخص دلت تقاطيع وجهه وقوام جسمه أنني أعرفه أجل وهو يعرفني جد المعرفة ، فبادرت بحماس: أحمد وأجاب سريعا ناطقا باسمي ووقفنا يتأمل كل منا رفيق صباه وزميل دراسته، لم أره ولم يرني مدة خمسين عاما، افترقنا بل فرقنا الزمن قبل نصف قرن وكنا في زهوة الحياة وميعة الشباب،
 كنا صديقين من محلة واحدة لا نكاد نفترق ولا تفرغ لنا أحاديث عن الناس والدنيا وحوادثها نتحدث أيام صبانا جداً إذا شئنا وهزلاً إذا رغبنا نأخذ الدنيا سخرية ونأخذها لهوا ومتاعا وحلما، نأخذها كما نشاء ولماذا لا نفعل؟ إذا كنا قد أخطأنا فإننا نستطيع أن نصحح الخطأ، إذا كنا قد ضللنا فأمامنا وقت طويل نستطيع أن نرشد فيه بعد ضلال وإذا كنا قد غوينا فالأرض التي نقف عليها مبسوطة الآماد فيها المتسع للمغفرة والإياب.rn كنا في أول العمر في بداية درب الحياة، العمر فتى والقلب خلي والصدر ندي والدنيا كلها تنثر علينا الأزهار نظرت إليه بعد خمسين عاما وحاولت أن أرى في وجهه سمات الماضي العزيز، وأستحضر أمسياتنا الندية وليالينا التي كانت تبلغ مطلع الفجر في بسمات أرق من أريج الزهر، فلم استطع.... شددت  على يديه وتأملت وجهه واضطرب شعاع عيني بين شعاع عينيه ثم اختلط علي الأمر فلم أدرك هل ارتددت مع الشعاع خمسين عاما إلى الوراء أم ضللت الطريق فإذا هو في واد وأنا في واد، وكأن لم تجمعنا ذكريات وروى لي منذ افترقنا ورويت له قصتي وعرفت كما عرف ان كلامنا ذهب أدراج الرياح، وأن الدنيا التي ربطتنا حينا من الدهر هي التي فرقتنا كل في طريق، هاجر هو أول الخمسينات وتقلبت به الأمور واستقر بعد حين يعمل في التجارة بين أوروبا وأمريكا وامتلك ثروة وصارت له أعمال تجارية ناجحة فهو والحمد لله في بحبوحة من العيش، واخترت أنا طريق الدراسة وطلب العلم وتحققت آمالي في أن أكون الأستاذ المعروف في اختصاصي، فامتلكت العلم والثقافة ولكنني لم أمتلك المال وبذلك تحقق لي أن الإنسان إما أن يمتلك الأموال وإما أن يمتلك العلم ومن المستحيل أو من النادر الأندر أن يجمع الإنسان الاثنين العلم والمال.جلسنا في زاوية من مطعم في عمان وكل واحد منا يسارع في ان يستعيد بعضا من ذكريات الماضي الجميل في حلاوتها ومرارتها أنها والحق أجمل أيام حياتنا حيث الحرية وعدم المسؤولية والانطلاق البريء في دروب وأزقة بغداد العتيقة في ذهابنا إلى المدارس الابتدائية والثانوية وسفراتنا المدرسية وإسهاماتنا في ملاعب الرياضة ومواسم السباحة في دجلة الخالد ومشاركتنا في حفلات الختان والأفراح وأيام اللعب وأيام الجد وتذكرنا بعض أصحابنا من زملائنا في المحلة والمدرسة هذا كتب الله له النجاح وهذا صار تاجرا وذاك تقلد الوزارة وآخرين انتقلوا إلى الرفيق الأعلى وغيرهم من هاجر للرزق والعمل بالخارج استعرضنا تلك الأيام بذكرياتها الجميلة ونسينا أنفسنا ونسينا الطعام ومر الوقت سريعا وتهيأ كل منا لوداع صديقه، إنه مضطر لمغادرة عمان مساء متجها إلى مكان عمله في أمريكا وأنا محتم علي أن أهيئ نفسي لمغادرة عمان مساءً إلى بغداد.وقف صديقي أمامي وترقرقت من عينيه دموع ولم أمتلك الموقف فأخذت الدموع تتدفق من عيني واحتضنته لأقبله مودعا وتساقطت دموعه على خدي كما تساقطت دموعي على خده وأحسست بدفء الدموع الزكية التي طبعت على خدي ذكرى أخوة صادقة وصداقة نبيلة ومددت يدي لأصافحه فكانت اليدان ترتعشان إجلالاً للأيام الجميلة وتقديرا للذكريات العذبة وكان الفراق وبدأت من جديد فترة انقطاع لا يعلم الله مداها.خمسون عاما اختصرناها بحدود ثلاث ساعات من التوجع والتذكر والتفكر، وعدت إلى الفندق وحزمت أمتعتي وجاءت واسطة النقل التي تنقلني إلى بغداد، وطول المسافة من عمان إلى بغداد وأنا غارق في تقييم هذا اللقاء التاريخي وكنت خلالها أستعيد الذكريات والذكريات كما يقولون صدى السنين الحاكي وهكذا فإن الأيام لعبت بنا فجعلت لكل همومه  وآلامه وآماله نحن اللذين امتزجنا يوماً في الكلام والآلام والآمال ومن المؤكد أن صاحب سبقنا سمى هذا الشعور فيستعيد الذكريات الحلوة كما استعدتها ولكنني أكثر ألماً وهماً لأنني سأكون غداً في مرابع الطفولة ومكان الذكريات الجميلة وعندها أتذكر صاحبي ولقاءه وفراقه، آه ما أشد على الإنسان فراق صديقه وبعد حبيبه، أسأله تعالى أن يحقق لقاءً آخر غير موعود، والحمد لله أولاً وأخيراً.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

كاريكاتير

كاريكاتير

ميثم راضيميثم راضي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram