سعد محمد رحيمخلق النظام السياسي العربي شكلاً هجيناً من الدولة أو شبه الدولة، ذات هوية استبدادية صارمة؛ (فردية، عائلية، أوتوقراطية ـ حكم القلّة) تستعير بعض سمات وأشكال الدولة الحديثة؛ الليبرالية وأحياناً الاشتراكية أو الفاشية، أو كلها معاً في خليط عجيب، وأيضاً، في الغالب، بطابع عشائري أو طائفي، أو كليهما معاً. بذا أصبح الحيّز السياسي الناشئ عنها خانقاً من جهة، ومشجعاً على بروز الانتهازية والوصولية والمحسوبية والفساد في مجال الفعل السياسي من جهة ثانية. فهيمنت عقلية العصابة على الأداء السياسي، وأصبح الوطن مقاطعة (إقطاعية) يملكها الحاكم وعائلته. وأصبح المواطنون رعايا (أقنان) حياتهم ومصيرهم بيد الحاكم يرزقهم متى يشاء، ويمنع عنهم حتى الهواء متى يشاء.
أما الثقافة السياسية التي سادت فلم تكن سوى إيديولوجية شعبوية، وراديكالية فاشية، مشوهة، لا علاقة لها بالواقع والتاريخ والمستقبل، ملمحها الرئيس العنف اللفظي (الشعارات الملتهبة)، ودعوتها الصريحة والمضمرة ممارسة العنف، بصوره القديمة والمبتكرة، لحماية امتيازات الحاكم وحاشيته إلى الأبد. والغريب أن آثار هذا الوضع انعكس على إيديولوجيات وممارسات كثر من الفئات والحركات المعارضة كذلك، كما لو أن واقعاً تاريخياً مثل الواقع العربي الحالي لا يولِّد، غالباً، إلاّ مثل هذه الإيديولوجيات الديماغوجية، ومثل هذه الثقافة السياسية المبتذلة، ومثل هذه السياسات والممارسات السيئة، ومثل هذه المؤسسات البالية، ومثل هذه العقلية العصاباتية. وفي هذا المناخ جرى تأطير وظيفة المؤسسات ( الحزب، الجهاز الحكومي، النقابات، منظمات المجتمع المدني ) وتكييفها لتكون جزءاً من الآلية الفاعلة التي تديم استمرار الحال على ما هو عليه لمصلحة الفئة الحاكمة. ساعدت جملة عوامل دولية وإقليمية وبنيوية في تكريس هذا الواقع السياسي التراجيكوميدي المزري لمدة طويلة، عربياً، منها؛ (عقابيل انتهاء عصر الاستعمار التقليدي، هيمنة أمريكا على قيادة العالم الرأسمالي ومتطلبات الحرب الباردة، نشوء الحكومات الوطنية غير الكفوءة، التدخلات الخارجية، قيام إسرائيل وتبدلات الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط، الحروب الداخلية والخارجية، إرث الثقافة الاستبدادية، انتشار أشكال مبسطة من الإيديولوجيات الراديكالية، اكتشاف النفط وانتعاش الاقتصاد الريعي، الصراعات الإقليمية والدولية، سيادة الذهنية العشائرية والطائفية، الخ، الخ). وخلال العقود الماضية حاولت نخب سياسية وثقافية تغيير هذا الوضع عبر طرحها ما اعتقدت أنها ثقافات سياسية مختلفة (اشتراكية، ليبرالية، قومية، دينية) ولمشروعات سياسية مغايرة تمتح من تلك الثقافات أصولها. وبطبيعة الحال، من غير نجاحات تُذكر. ولكن فجأة بدأ المشهد يتغير خلال الأشهر الأخيرة وتنبئ عن تحولات دراماتيكية غير مسبوقة، وبسرعة مذهلة وصادمة. إنّ ثقافة أخرى (تحتية) كانت تنمو في غفلة من الطبقات الحاكمة والنخب الثقافية والسياسية، إنْ في الفضاء الافتراضي/ الرقمي ( عبر مواقع التواصل الاجتماعي في شبكة الانترنت)، أو في الشوارع الخلفية وفي القرى والبلدات النائية المهملة ( وتلك مفارقة)، مستقطبة شرائح اجتماعية (شبابية) راحت تتحرك، اليوم، بقوة، وتعصف بكل شيء (المؤسسات الحاكمة والإيديولوجيات السائدة ) وتهدد كامل النظام السياسي العربي الذي ظننا بأنه باقٍ لقرن آخر ربما، بالسقوط والاضمحلال. من الصعب بمكان التحدث عن ماهية هذه الثقافة بوضوح، أو تحديد طبيعتها واتجاهها، ذلك أنها لم تتبلور تماماً بعد، ولم تتخذ أنماطها القارّة، وهي مرشحة للتشظي والتصارع. وأنها من الهشاشة بحيث يمكن أن تكتسب ملامح متبدلة؛ أنْ تضعنا أمام أفق مشع وواقع سياسي صالح للتنمية والرقي والتحرر بأشكاله كافة، فهذا احتمال ممكن. أو أن تقودنا إلى الفوضى والدمار، أو شكل آخر، أشد عتواً، من الاستبداد، وهذا احتمال ممكن آخر. فقد يخلِّف النظام الديكتاتوري أو الفاشي نظاماً ديكتاتورياً أو فاشياً آخر. وقد تصعد عبر صناديق الاقتراع ( الديمقراطية ) فئات فاشية أو ديكتاتورية، تركب الموجة وتخادع بالخطب والشعارات، ثم سرعان ما تفتك بالتجربة الديمقراطية الوليدة. إن القائمين على الثورات الشبابية يتحدرون من بيئات اجتماعية وثقافية مختلفة ومتناقضة، وعلينا أن نكون حذرين في مراقبة لمن ستؤول الغلبة في النهاية؛ لأصحاب الفكر المديني الديمقراطي الحر، أم لأصحاب الفكر الأصولي اللاديمقراطي/ الاستبدادي المتشدد؟. وأمر طبيعي أن يكون لهؤلاء مثقفوهم ولأولئك مثقفوهم. وطالما نحن نتحدث عن ثقافة ( تحتية ) تنبثق في الهوامش أو في الفضاء الافتراضي/ الرقمي فأمر طبيعي، كذلك، أن نتحدث عن مثقفين ( آخرين ) لا يشبهون المثقفين الذين عرفناهم طوال العقود الماضية، وسأسمي هذا النمط بمثقفي الهوامش، أولئك الذين يمارسون تأثيراً طاغياً عبر الطرح الفكري ( بغض النظر عن محتوى وأهداف ذلك الطرح ) على الآخرين. من هنا يمكننا القول، وفي نطاق الاحتمالين القائمين، أن ما يتغير هو حدود مفهوم الثقافة وجانب من فحواه، وموقع المثقف في المجال الاجتماعي/ السياسي، وكذلك دوره الذي عليه تأديته في هذا المجال، في مقابل التغييرات التي حصلت في وسائط الاتصال والإعلام، وأنماط الثقافة.. وفي خضم الثورات الشبابية العربية وما ترشح عنها من مواقف وأفكار نستطيع تأشير نمطين ثقافيين سائدين، على الأقل، ليسا متوافقين بأية حال، وربما كانا ينذران بصراع ضارٍ بينهما، مؤجل في الزمن الحاضر.يجري التساؤل اليوم عن هوية هؤلاء الذين بدأوا ثورة الشباب العربي، من هم وما هي خلفياتهم الاجتماعية والسياسية والثقافي
الثقافة التحتية.. ومثقفو الهوامش
نشر في: 30 مارس, 2011: 05:20 م