د.خالد السلطانيمعمار وأكاديميتخفي بغداد كنوزا معرفية عديدة في ثنايا فضائها المديني. وهذه الكنوز، هي في الواقع، تمثيل لإبداع فترات مثمرة ومميزة، مرّ بها تاريخ المدينة الممعن في القدم. وقد سعى صفوة من المهتمين وراء تبيان تلك الكنوز والكشف عنها، لتكون المنطلق والأداة اللذين، منهما وبهما، تبدأ نهضة المدينة، وبالتالي نهضة البلد ككل. وكحاضرة "متروبولتانية" عريقة بامتياز، فإنها تخفي، أيضاً، تحفاً معمارية عالية الأهمية، إن كانت في قيمتها الفنية، أم في نوعية مقاربتها الأسلوبية. انها تحف حقيقية ومتنوعة، ما انفكت تمتلك جمالياتها، وقوة معالجاتها التكوينية. بيد إن سطوة الزمن العاتية، "المتواطئة" مع يد الإنسان غير الرحيمة، عملتا على تشويه وإقصاء وغياب "حضور" تلك التحف عن المشهد المديني، رغم ما تمثله من أهمية ثقافية، وما تعكسه من إبداعات مهنية مرموقة.
ولئن شاهدنا اهتماماً مشروعاً في السابق من قبل بعض المهتمين، الذين ساهموا بجهدهم العلمي ومبادراتهم الشخصية، في إنارة ذلك الإرث الفني، وتقديمه إلى أوساط اجتماعية واسعة ومتنوعة؛ فان مثل ذلك الاهتمام قد انحسر في العقود الأخيرة، ويكاد ان يضحى الآن أمراً منسيا وبعيداً عن انشغالات الخطاب الثقافي العراقي الراهن. وهو امر، آثار ، ويثير الأسى والأسف، لدى جمهرة واسعة من المثقفين. إن القطيعة المعرفية غير المبررة، والتغاضي المتعمد عن ذكر او معرفة ما جرى سابقاً من نجاحات مهنية، لا يمكن تسويغهما ابستيمولوجياً بأي حال من الأحوال؛ فالغياب المؤثر لتلك المقاربات المعمارية الرصينة في الخطاب وفي المشهد، يفضي إلى فقر الذخيرة المعرفية المحلية وجدبها، هي الحاضنة، بموضوعية، لأي نجاح مهني وثقافي حقيقيين.قد تكون نظرة المهتمين المحليين في إنارة المنجز المعماري السابق ومساءلته، عملاً مطلوباً وضرورياً، لإدراك قيمة ذلك المنجز وتبيان نجاحاته وتقدير أهميته المهنية. لكن نظرة "الآخر" إلى ذلك المنجز تحديداً، يضفي، في اعتقادنا، أهمية استثنائية، لجهة كشف وتحليل ذلك المتن الإبداعي ورؤيته من خلال نظرة أخرى، خاصة، نظرة تستقي خصوصيتها من مصفوفة معرفية، تتبع، عادة، مرجعية ثقافية مختلفة، هي التي تنطوي على معايير، ليس بالضرورة تماثل معاييرنا، وليس شرطاً تشبه طريقة تعاطينا للإحداث. انها نظرة "الآخر" التي تكرس انا(تنا) من جهة، وتشعرنا لان نكون ندا مكافئا للآخر المختلف، ومن جهة أخرى، تحرص على تأشير عناصر عمارتنا منظوراً اليها، بعين أخرى، هي غير ما اعتدنا نحن على رؤيتها. وكتاب "سيسيليا بييري" Caecilia L. Peiri (بغداد: العمارة الحديثة والتراث)، الصادر عن دار المدى، 2009، وبعدد 156 صفحة من القطع الكبير، ينشد ان يكون ضمن رؤى "نظرة الآخر" ومفاهيمها، التائقة لفحص المنجز المعماري المحلي، وقراءاته قراءة خاصة. من هنا، في اعتقادي، تنبع الأهمية المضافة للكتاب، بالإضافة طبعا الى أهميته كونه يثير موضوع نشأة العمارة العراقية الحديثة ويسعى وراء تأشير إنجازاتها، وتعقب مقارباتها التكوينية. ومؤلفة الكتاب، باحثة سوسيولوجية فرنسية، حصلت على شهادة الدكتوراه عام 2010 ، من مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية، بباريس، في موضوع الكتاب المنشور، والذي صدرت طبعته الفرنسية أولاً بعنوان (بغداد: ار ديكو، عمارة الطابوق 1920-1960) ، في 2008 بباريس، ثم أعقبته طبعة إنكليزية بنفس العنوان، صدرت في مصر سنة 2011 عن منشورات الجامعة الأمريكية بالقاهرة. يتضمن كتاب " بغداد: العمارة الحديثة والتراث"، مفتتحاً بقلم رفعة الجادرجي (1926)، المعمار العراقي المعروف، ومقدمتين، إحداهما بقلم د. إحسان فتحي (1942)، المعمار والأكاديمي العراقي، المقيم في الأردن؛ والأستاذ في جامعة فيلادلفيا بعمان، والأخرى بقلم نعيم قـطّان (1928)، وهو عراقي من اصول يهودية، روائي وناقد، مقيم في كندا، ويحمل جنسيتها، وحازت اعماله في سنة 2007، الجائزة الكبرى التي تمنحها الأكاديمية الفرنسية. وقام بترجمة الكتاب من الفرنسية الى العربية د. جمال شحيّد، الباحث في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى ، وساهم الأستاذ غني العاني في كتابة بعض خطوط الكتاب. يشير رفعة الجادرجي في مفتتحه للكتاب الذي عنونه (العراق، او الأرض والشعب اللذان سيصبحان العراق الحديث)؛ بان كتاب سيسيليا بييري "... يقدم شهادة عن الوجه العمراني لبغداد وتاريخها اللذين نخشى من زوالهما السريع. وعلاوة على ذلك يشكل مفكرة نفيسة يستطيع بها العراقيون ان يخلقوا لأنفسهم من جديد الظروف الثقافية لكتابة تاريخهم الحديث، الذي تؤلف العمارة فيه دعامة طالما أهملت، ولكنها أساسية قطعاً". (ص.16). اما د. احسان فتحي، فعنون مقدمته (اسطوات بغداد العظام والمغمورون)، وهو موضوع مثير للاهتمام، كما انه جديد في ادبيات البحث المعماري. وهو غني بالمعلومات عن أسماء "الأسطوات"، وهم "معلمو البناء، الذين شيدوا كثيرا من المباني والمنازل الرائعة في العالم الإسلامي". ويذكر د, إحسان، بان معظم الأسطوات العراقيين هم من اصول شعبية؛ "..وفي بغداد مثلا تنحدر غالبيتهم من الأحياء المحرومة، كحارة الهيتاويين، التي كما يبدو كانت منبتاً خصبا لهم. "؛ "..وكان الاسطوات يلبسون ثياباً بلدية مميزة: (الصاية)، و (الشراوية)، وأحياناً الكوفية التي تتهدل على الكتف. إن ارتداء هذه الثياب التي تضفي عليهم مسحة مؤكدة من الاحترام، كان مدعاة فخر كبير لهم." (ص. 19-20). أما نعيم قـّطان، فكانت كلمات مقدمته (العودة الى بغداد)، مؤثرة ومكتوبة بوجع إ
ماضي العمارة الخلاّقة
نشر في: 1 إبريل, 2011: 05:29 م