أوس عزالدين عباسمن أهم أهداف الدراسات المستقبلية البحث عن الصور التي يريد المجتمع أن يكون عليها في المستقبل ، والتي يتخذها أفراده بناء على ذلك مثالا ينبغي تحقيقه بكل الوسائل الممكنة ، وتسجيل الأفكار والآراء والطموحات والمكاسب أو الخسائر التي سوف تصادف تحقيق ذلك الهدف ، وتأثير ذلك كله في المجتمع إيجابا وسلبا.
لقد انتبه لذلك العالم (( جيم داتور )) أستاذ العلوم السياسية والدراسات المستقبلية في جامعة (( هاواي )) ، وحاول رصد البدائل المستقبلية التي تدور في عقول الناس ، والتي يمكن أن تحل محل الأوضاع القائمة حاليا ، والمستقبل الذي سوف يترتب عليها ، باعتباره نتاجا طبيعيا ومنطقيا لتلك الأوضاع ، ويقول (( داتور )) : (( إننا نكتشف أننا خاضعون بالفعل لقوة استعمارية متحكمة في ما يمكن اعتباره آخر جبهة نحتمي وراءها وهي المستقبل ، وهذا الشعور هو الذي يدفعنا إلى البحث عن الأنشطة التي يمكنها التصدي لذلك الاستعمار )) ، وقد جاء ذلك في مقال له بعنوان (( البحث عن صور المستقبل )) ، والذي نشره في مجلة (( الدراسات المستقبلية )) في (( فبراير/ شباط 2005 )) ، فالبحث عن صور المستقبل هو أسلوب لتغيير الواقع القائم ، وتحديد الخطط والخطوات نحو مستقبل مغاير ومشرق ، ومع أن النظرة إلى المستقبل وتخيل مايجب أن يكون عليه هو خاصية ملازمة للجنس البشري منذ بدايته الأولى المبكرة وحتى الآن ، مع اختلاف في الدرجة تبعاً لمستوى التفكير وطبيعة الظروف المعقدة التي يعيش فيها الإنسان على مر العصور ، فإن هناك من يرى إن البحث عن صورة معينة بالذات للمستقبل هو اتجاه حديث نسبيا ، ويرتبط غالبا بنمط التفكير الغربي والذي بدأ يتبلور بشكل واضح من القرن السادس عشر ، وظهور الكتاب والمفكرين المعنيين بالمستقبل. من أمثال (( توماس مور )) وكتابه الشهير (( نحن والمستقبل )) ، والذي صدر في عام (( 1916م )) ، متأثرا بكتاب (( أفلاطون )) (( المستقبل )) ، ولكن القرن التاسع عشر هو الذي شهد سلسلة من الأعمال الأدبية والتي احتلت مكانا بارزا في تاريخ الفكر الإنساني والتي تقوم على تصور المستقبل ، كما هو الحال في كتابات (( جون فيرن )) ، إلا إن الدراسات المستقبلية بالمعنى الدقيق للكلمة والتي تعطي جانبا كبيرا من اهتماماتها لموضوع صور المستقبل والبدائل المستقبلية ، ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية لأسباب كثيرة ، بعضها يتعلق بالسياسات الدولية والتحركات العسكرية والحاجة إلى تبادل المعلومات ، وخاصة عن القوى النووية ، وما يترتب على استخدامها على نطاق واسع وفي مختلف المجالات ، ثم تطورت الاهتمامات بهذه الدراسات في الستينيات من القرن الماضي نتيجة للتغييرات السريعة لكثير من مجالات الحياة ، وليس فقط في المجال التكنولوجي ، وبدأت الدراسات في الجامعات الأمريكية على وجه الخصوص ، كما تكونت الجمعيات والهيئات العلمية لذلك .والمهم هنا ، هو إن الموضوع المحوري في الدراسات المستقبلية هو صورة أو صور المستقبل كما يتخيلها أفراد المجتمع في ضوء تاريخهم وتراثهم لهذا كله ، مع الأخذ في نظر الاعتبار المشكلات التي تحيط بالمجتمع بل وبالعالم ككل وأساليب التصدي لتلك المشكلات ، فالنظرة هنا إذن نظرة مثالية وإلى حد كبير ، وإذا كانت كل التجارب والخبرات التي يتحدث عنها الإنسان ترتبط بالماضي ، فإن القرارات التي يتخذها ترتبط بالمستقبل ، ولذلك فيجب على الإنسان أن يربط بين الطرفين ، وأن يعثر في الماضي على الأبعاد والقيم والعناصر التي أفلحت في الصمود ويمكن الاستفادة منها في رسم صورة المستقبل ، وهذا هو الوضع بالنسبة للفرد والمجتمع على السواء ، خاصة إن الصورة التي يتم تخيلها والعمل على إخراجها إلى أرض الواقع تؤثر بشكل قوي في تحديد سلوك الأفراد وعلاقاتهم بعضهم ببعض حتى قبل أن تصبح تلك الصورة واقعا مجسما ، فصورة المستقبل موجودة دائما في صلب الدراسات المستقبلية ، وإن كانت تتخذ أسماء مختلفة ، كما تظهر بشكل أو بآخر قي عناوين عدد من الكتب التي أثرت تأثيرا عميقا في اتجاهات التفكير خلال العقود الأخيرة ، كما هو شأن كتاب (( دانيل بل )) عن (( مجيء مجتمع ما بعد الصناعة )) والذي صدر في عام (( 1973 )) ، وكتاب (( كنيث بولدنج )) بعنوان (( الصورة )) والصادر في عام (( 1956 )) ، والكتاب المهم الذي شارك في تأليفه (( كاهن وفينر )) بعنوان (( العام 2000 )) ، وحتى كتاب (( توفلر )) الشهير باسم (( الموجة الثالثة )) والذي صدر في عام (( 1981 )) ، فهذه أعمال كلها لاتكتفي بدراسة الصورة أو الصور التي يكونها أفراد المجتمع في محاولاتهم في فهم وتفسير المستقبل ، ولكن أيضا رصد وفحص ودراسة العملية التي يتم بها تكوين تلك الصورة ، وتشجيع الناس على ارتياد صور بديلة للمستقبل وتكوين صورة ذلك المستقبل بأنفسهم ، للتعبير عن رأيهم في الواقع ورغباته في خلق مستقبل أفضل بإرادتهم الخاصة وتحت مسؤوليتهم ، مما يحقق وجودهم وذاتهم وإمكان تصديهم للتغيير الاجتماعي .وعملية البحث عن صورة المستقبل تنطوي على نوع من التوازن بين التمسك بالموضوعية التي تقوم على تحليل قوى التغيير وتصور الإمكانات التي قد يتخذها المجتمع ورصد ماهو قائم ، وبين التخيل الإبداعي حول ماقد عساه أن يحدث في ضوء المعطيات الراهنة ، والتفكير الإبداعي في هذ
خبرات الماضي وقرارات المستقبل والبحث عن الصور المشرقة
نشر في: 22 إبريل, 2011: 05:08 م