فخري كريم
ضُيّعَت على شعبنا فرصة تاريخيةٌ باستعادة عافيته السياسية والاجتماعية، في أعقاب انهيار نظام الطغيان البعثي الصدامي في نيسان ٢٠٠٣،
بصدور سلسلة قوانين وقرارات بول بريمر الارتجالية، غير المُدرَكة نتائجها وعواقبها، وانفلات الغرائز اللا إنسانية الكامنة، كَرَدِ فعل للكبائر التي ارتكبها النظام الفاشي في البلاد. فالقوانين والقرارات والتدابير المتناقضة التي استهدفت معالجة الآثار الإجرامية للنظام، واجتثاث أسسها والحيلولة دون استمرار تأثيرها،
أدت في الواقع العملي إلى إعادة إنتاجها، وتحولها من ممارسة "سلطوية " معزولة ، إلى الإدراك العام كأداة للانتقام من جانب والدفاع عن النفس من الجانب الآخر. ومع نقل المسؤولية السياسية عن الجرائم والفظائع الكبرى من "الطغمة" الحاكمة وأدواتها التنفيذية في الأجهزة الأمنية والمخابراتية والخاصة المحترفة إلى "الطائفة" المتهمة ادعاءً وبهتاناً بتمثيل سلطتها، تم إرساء مفهوم وقواعد الانتقام بديلاً عن المقاضاة أمام القانون. وساعد في هذا التحول غيابٌ كلي لسلطة الدولة، ورفضٌ ضمني لسلطة الاحتلال التي توَلَتْ التشريع والتنفيذ والولاية المطلقة على إدارة البلاد. ولابد من التأكيد في كل مرة على الدور المشبوه لقانون "اجتثاث البعث" و "قرار حل الجيش" وتدابير أخرى متناقضة عديدة في إشاعة مفهوم "الانتقام" وسيادته بالضد مما ينبغي اعتماده من احتكام لسلطة القانون والقضاء والعدالة في إطار الدولة الحاضنة. فالقانون والقرار والتدابير المرتبطة بهما، اتسمت بالطابع الشمولي في فحواها وحكمت على الجميع "ضمنياً" بالشبهة والاتهام بالمشاركة في جرائم النظام والمسؤولية عنها، وهذا كان يعني شمول كل المنتسبين للبعث عن طواعية وإيمان، وهؤلاء قلة يمكن حصرهم في القيادات والكوادر التي ارتبطت مصالحها وربطت مصيرها بالنظام، لقناعة أو لتورط في تنفيذ جرائمه، أو لانتماءٍ على كراهةٍ ومصلحةٍ وسوء تدبير. لكن السلوك العملي لسلطة الاحتلال والقوى الناهضة الجديدة، المتميزة بطابعها الطائفي الانعزالي، حدد المستهدفين، بغباء أو بسوء نية وتعمد مسبق بدوافع سياسية لم تتكشف وثائق إدانتها بعد، بالعدد المحدود الذي روجت له "كوتشينة - دستة ورق اللعب" الجيش الأميركي عشية دخوله العراق وفرض الاحتلال على شعبه بقرار أممي.
إن السلوكية الملتبسة الغامضة من حيث الدوافع والنوايا لسلطة الاحتلال وتعاملاتها المتناقضة، والانهيار الكامل لبنيان الدولة وأجهزتها ومؤسساتها، وانتشار عصابات الجريمة المنظمة "الحواسم" والمجرمين المطلق سراحهم من السجون بقرار صدام حسين، والانفلات الأمني الذي نجم عن ذلك كله، خلق البيئة النموذجية لاعتماد "الانتقام" الشخصي والفئوي بدلاً من الاحتكام للقضاء والعدالة المرهونة به. وفي مثل هذه البيئة اللا إنسانية المنسلخة بلا وعي عن القيم المتحضرة، اندفعت قطعان الجريمة المنظمة لتشيع مظاهر جديدة في الحياة الاجتماعية والسياسية في كل أنحاء البلاد، وتبتكر وسائل تجارة الخطف والسلب والنهب لتتحول في أسوأ لحظة انتقال ثأريةٍ كارثية إلى تصفية آلاف المواطنين وقتلهم على الهوية والشبهة الدينية والطائفية. واتخذت المأساة الشعبية طابعها الأبشع بانحدار ملوك وأمراء الطوائف إلى مستنقع التصفيات الجسدية، والتحول من السياسة إلى الجريمة المنظمة لتعزيز مواقعها وفرض حضورها في الحياة السياسية، بتصميمٍ ذاتي متعمدٍ ومقصود، أو بانسياق وراء ردود أفعالٍ غير منضبطة تفتقر إلى ابسط المحرمات الدينية والأخلاقية والقيم الإنسانية المتحضرة. وفي تقييم هذه الظاهرة المتوحشة في تاريخ العراق الحديث، لا أهمية للبادئ أو المسؤول الأول الذي بادر لإثارة الفتنة، لان أية محاكمة أخلاقية لهذا الفعل المشين تفصح عن أنه يعيد إنتاج بيئته السلبية ويستثير الحساسيات الثأرية لدى الضحايا، وتتحول ثانية إلى أدوات "طائفية" تحت تصرف تجار السياسة الذين تمرسوا على توظيف مصائب شعبنا لخدمة نواياهم ومطامعهم المشبوهة.
لقد انتقلت البشرية في مجرى "تأنسُنها" وتطورها في تنظيم علاقاتها البينية، وفي مراحل متقدمة من العلاقات داخل المجتمعات المتكونة في تخوم المدن والحواضر وبين وحداتها، من التقاليد الوحشية إلى التدرج في تبني المبادئ والقيم الحضارية الإنسانية. ومثّلت الدولة منذ تكوينها الجنيني كـ"علاقات" بوصفها حاملة لهذه المبادئ والقيم تطورت داخلها وفي رحم مجتمعاتها، واتخذت العلاقة بين "الدولة والقانون ونظام العدالة" طابع توأمة تلتقي وترتقي طوراً، وتتعارض وتتناقض في طورٍ آخر، وفقاً لمستوى التطور والنمو الاجتماعي والاقتصادي والنهوض الثقافي المرافق لهما ونظام الحكم والمصالح المعبرة عنها. إن انهيار الدولة وتفككها يؤدي لا محالة إلى انهيار منظومة العدالة والقوانين المتحكمة بمساراتها، وقد انهارت دولة الاستبداد بكل أركانها في ٩ نيسان عام ٢٠٠٣ وتداعت أحجار بنيانها وتفككت وحداتها إلى خرائب، لكن قيم ومفاهيم "قضائها" و"عدالتها" الاستبدادية تناثرت لتخترق جدران أقبية التعذيب وقطع الألسن والآذان وجدع الأنوف على أيدي عناصر أجهزتها التي تمثلت كل الأساليب الوحشية البدائية واستعادتها من ترسانة الأنظمة المستبدة ، لتنتقل إلى الشوارع والأزقة والمحلات المظلمة على أيدي أزلام الأجهزة الذين أصبحوا قيادات "حواسم" وعصابات منظمة، وضعت نفسها تحت تصرف منظمات القاعدة وفلول البعث والميليشيات الطائفية المسلحة، كلٍ حسب "ملَتهِ" و "طائفته" و "انتمائه" المختلط. وكأن صدام حسين تنبأ بمصير سلطته في الوقت الضائع من غفلته السياسية، فأسس لِنَقل "إرهاب الدولة" بكل ما في ترسانتها من وسائل الجريمة والإبادة إلى الشارع السياسي. ولم تكن الحرائق التي اشتعلت في منشآت الدولة وممتلكاتها، وتدمير بناها التحتية وسرقة الأملاك العامة سوى مشهد عرضي لتكريس هذا الإرهاب والإعلان عن وجود النظام شاخصاً بجريمته واعداً بعودته.
وإذا ما تساءلنا عن النتائج التي ترتبت على أكثر من ثماني سنوات من عملية إعادة بناء الدولة الملغومة بعناصر ومكونات النظام السابق، ومدى الانسجام والتساوق الذي جمع العملية بتوأمها المتمثل بـ"القانون" أو "سلطة القضاء والعدالة"، وانعكاسها على سير العدالة وطمأنة الضحايا وذوي الشهداء، فهل سنتلمس انحساراً لظاهرة الإحساس الشعبي بالقهر من الغدر الذي لحق بهم جرّاءَ تعويلهم على سلطة القضاء بإنصافهم والحجر بذلك على بواعث الجريمة وتصفية أدواتها ومظاهرها.؟ وهل استطاع القضاء "العادل" ردع الدوافع الكامنة "للانتقام" كأداة لإنزال العقاب بالمجرمين من أتباع وأدوات النظام الفاشي الذين احتفظت الذاكرة الشعبية بالوثائق والثبوتات الدامغة على إدانتهم. أو ليس الانتقام تعبيراً في اللاوعي عن مراحل غياب الدولة وسلطتها، فكيف إذا كانت آثار الجريمة شاخصة أمام المجتمع وقد تحولت إلى مظهر جديد في الدولة، تتحرك في دوائرها باعتبارها رموزاً لحقبة جديدة تلبس "لبوسها الديمقراطية" باسم المصالحة الوطنية لتعيد إنتاج نمطٍ متحولٍ من الاستبداد والقتل المعنوي، وتعمق إحساس المواطن بالاغتراب.
ثم ألا تؤشر ظاهرات التمسك بقيم وعادات وسلوكيات النظام المباد إلى صيغ معدلة من التبعيث في المجتمع والدولة. وهل لهذه الظاهرات علاقة بما يراد تعميمه وإشاعته فيهما، تحت مُسمى "المصالحة الوطنية"؟
إن إعادة العدالة إلى مجراها الطبيعي، ومقاضاة أي متهم بالجريمة بحق رعايا الدولة العراقية السائرة بتعثر وتناقضات والتباس على طريق التكوين، سواء أكانت الجريمة قد ارتكبت في ظل النظام المباد أم في بيئة انهيار الدولة والانفلات الأمني من عقالها وحتى أيامنا الراهنة، قاعدة فقهية ملزمة للدولة وسلطتها القضائية تتراجع أمامها كل الأسباب والمبررات السياسية والأخلاقية غير المؤنسنة. وهي أساس متين لأي مصالحة وطنية دائمة مبنية على معافاة العلاقات بين المكونات المجتمعية، وليس مع من يدعي حمل تمثيلها والتعبير عن تطلعاتها وخياراتها. ويقتضي ذلك إعادة الاعتبار على النطاق الاجتماعي والسياسي لمكون أساسي جرى التعامل معه "ضمنياً" باعتباره الوجه الآخر لنظام البعث والمعبر عن بقاياه، وروج لهذا الاتهام الباطل المقصود به خلط الأوراق، أدعياء تمثيله سياسياً، لاعتبارات مصلحية ضيقة، وفي مرحلة الفراغ السياسي الذي حال دون تنظيم "العرب السنة" لأنفسهم من خلال تكوين ملاكاتهم وتجريبهم من بين الذين لم يكونوا في إطار المنتسبين عن إيمان ويقين إلى البعث ونظامه، أو ممن لم ينخرطوا في العمل السياسي، أو من الجمهرة الواسعة من القواعد العربية السنية الذين يحملون الهم الوطني وينأون بأنفسهم عن النزوع المشبوه للقيادات السياسية المصنعة حديثا ممن يخلطون بين قلق وهواجس وتطلعات الطائفة الوطنية وخلفياتهم البعثية الصدامية. إن ابرز الكفاءات والخبرات في محيط المكون الوطني المذكور تُهمش وتُستبعد عن الشأن العام بسبب التضييق عليهم ممن صادروا تمثيلهم وتعمدوا تشويه هذا التمثيل والإثقال عليه لاشتراطات تستهدف بشكل مباشر إعادة تزكية البعث الصدامي وتمكينه بصيغ جديدة من العودة إلى الحياة السياسية واعتبار هذه التزكية والعودة هو الضمان الوحيد لـ"المصالحة الوطنية" ولا يتورعون عن التهديد بين فترة وأخرى بعودة الإرهاب وزعزعة الاستقرار الأمني في حالة عدم الاستجابة لما يطرحونه من مفهوم للمصالحة وتوطيد للأمن. وهم إذ يعبرون عن نهجهم هذا إنما يلمحون إلى أنه مطمحٌ يجسد قلقاً عربياً سنياً، ينبغي أن يعالج، وكأنهم بذلك يريدون تكريس صورتهم في أذهان أبناء الشعب العراقي المكتوين بجحيم صدام حسين بوصفهم ممثلي نظامه وحزبه، والمدافعين عن نهجه الاستبدادي وجرائمه ضد الإنسانية.
إن الفصل السياسي بين المكون العربي السني والبعث ونظامه، بات ضرورة وطنية ملحة، وتحقيقه كفيل بعزل العناصر والقوى التي تتخذ من القاعدة الشعبية السنية وإدعاء تمثيلها خيمة لها لتمرير قيم البعث الصدامي وإيديولوجيته وأساليب عمله إلى الحياة السياسية الديمقراطية الهَشَّة وتفخيخ الدولة المستباحة من أزلامه الذين يترصدون مسيرة بنائه ويعملون من داخل العملية ومن تخومها لإجهاضها.
ومن بين الوسائل الكفيلة بمواجهة التشوهات التي يراد لها أن تتسلل إلى العملية السياسية وبنية الدولة الفصل بين الجريمة والخطأ الذي تعرضت له الصيرورة الديمقراطية في مجرى تطورها منذ نهاية الحقبة الماضية، والتي لم تعالج آثارها بما يضمن العدالة ويفرج عن الأبرياء الذين ضاعوا بين أرجل المجرمين والقتلة الذين لا زال كثير منهم بمنجى عن أيدي العدالة.
إن تحقيق العدالة وإطلاق الأبرياء لا ينبغي أن يتحقق من خلال الاستجابة لمطالب "ذوي الاحتياجات الخاصة" من المدافعين عن المجرمين الذين ثبتت إدانتهم وتلبستهم الجريمة دون أدنى شك. ولابد من التأكيد بوضوح قاطع بأن العدالة يجب أن تأخذ مجراها خارج دعوات المصالحة واشتراطاتها، فهي حق مكفولٌ للمواطن وفوق أية اعتباراتٍ تخترق عباءة القانون والدستور.
إن أحداً من دعاة "المصالحة المخلة"، لم يلتفت حتى الآن إلى الكيفية التي أُديرت وعولجت بها قضايا ضحايا النظام السابق، وما هي السياقات التي اتخذتها العدالة بشأن جلاديهم، وما هي علاقة المصالحة "الوطنية" بالجرائم والمجرمين، وكيف تنطبق العدالة والعفو على من تُثبَت التهمة عليه جهاراً، بعيداً عن أي إكراه أو تعذيب أو أي شكل من القصدية والقسر..؟
والسؤال الذي يفترضه هذا السياق هو لماذا تظل ملفات عشرات القتلة والمجرمين الذين حسمت المحاكم قضاياهم وحكمت عليهم بالإعدام، مركونة في مكاتب محكمة التمييز العليا ومن الذي أمر بتجميدها رغم مرور سنوات على صدور الأحكام، وأين مجلس القضاء الأعلى من هذا الذي يجري في أروقة المحكمة المذكورة، وأين اللجنة القانونية في البرلمان من هذا السلوك المنافي للعدالة واستقلالية القضاء؟
إن الدعوات إلى البرلمان بإصدار عفو عام ينبغي أن تأخذ بنظر الاعتبار وتنحاز إلى إصلاح الخلل القضائي، ولكن دون أن يرتكب خطأً اكبر بتبرئة من يتطلع ضحاياهم إلى العدالة لإنصافهم من القهر.
العفو العام لا يمكن أن يكون مجديا إلا إذا كان وسيلة لمعافاة المجتمع، وليس أداة لإعادة إنتاج قيم الجريمة والشعور بالغبن وإثارة نوازع الثأر بين الناس من المكتوين بنيران الإرهاب والجريمة.