فخري كريم
(12)
يحتل العراق بجدارة المركز الأول في عالم الفساد المتفشي في البلدان الأكثر تخلفاً، لكن العراق يتميز عن جميعها بالخبرات المتراكمة فيه في ظل ظرف سياسي يفترض انه نقيضٌ له.
فالنظام الديمقراطي، حيث تنطلق في رحابه الحريات وتنتعش سلطة الإعلام بدورها النقدي والرقابي وحتى الفضائحي ويتكرس دور منظمات الرقابة الشعبية، كما تتمتع في ظل الديمقراطية السلطات الثلاث: التشريعية والقضائية والتنفيذية بالاستقلالية والنفوذ المادي والمعنوي، وبقوة الردع والممانعة.. وبهذا يصعب أن تتشكل في مثل هذه المجتمعات الديمقراطية التي تتسيّدُ فيها هذه السلطات بمثل هذه القوة الرادعة والنفوذ المادي والمعنوي بيئة حاضنة للفساد إلا إذا كانت الدولة نفسها قد انزلقت إلى متاهات الفساد وأصبحت حاضنة له وراعية لنشاطاته ومتورطة بشكل مباشر في أوجه من فعالياته، أو أن السلطة القضائية والأجهزة التنفيذية المرتبطة بالحكومة نالها التآكل وتعرضت للإفساد وفقدت استقلاليتها. إذ يكفي أن يتهرأ جسد السلطة القضائية وينال منها الصدأ والوهن الأخلاقي، وتفقد استقلاليتها، حتى تصبح مظاهر الفساد وانحطاط القيم مجرد وجهة نظر، تتهاوى أمام قوة اندفاعتها جدران الممانعة شيئاً فشيئاً، ليصبح السّوي المنزه عن التجاوز على المال العام، "مشروعاً اجتماعياً" محكوماً عليه بالفشل والإملاق.!
البيئة الفاسدة تنتج كل المظاهر التي تؤدي مع الاستمرارية إلى انهيار المجتمع وتفسخه وانحطاط منظومته القِيَميّة والأخلاقية، وتتضاءل إمكانية نموه وتطوره الحضاري والإنساني. ومثل هذه البيئة حيث يسود الفساد ويتحكم فيها الفاسدون مرتعٌ خصبٌ لكل المظاهر المرضية، ومؤشرٌ لتصدّع النظام العام وتداعي بنيانه، واستحالة نهوضه ديمقراطيا، ونموه ثقافياً، وازدهاره اقتصادياً. فالموارد الاقتصادية والبشرية يستهلكها الفساد وتدمر أصولها العمليات المتناقضة مع قواعد الديمقراطية و التنمية الحضارية والاقتصادية المستدامة.
إن التلازم البنيوي بين الإرهاب والفساد، يعكسه الاعتماد المتبادل بينهما والرعاية المطلوبة لكل منهما من الآخر لخلق مناخ الأمان والحماية التي تتطلبها ممارسة كل منهما طقوسه وتأمين متطلبات نجاحه وهيمنته. فالفساد هو المنبع الذي يسقي بذور الإرهاب وهو في طوره الجنيني، كمجرد "إمكانية"، فيتولاه بالرعاية حتى يُعَبِرَ عن ذاته، ابتداءً كظاهرة شقاوة وبلطجة تترعرع ويشتد عودها في المجتمع، وتتحول فيه من اطرٍ ضاغطةٍ وأدوات ترويعٍ إلى ميليشياتٍ ومنظمات إرهابية نافذة في الحياة العامة سرعان ما تدفع القوة والنفوذ والسطوة التي تبلغها إلى عقد شراكة وتزاوج بينها وبين مصادر الفساد والنهب العام ليرتقيا معاً ويتحولا إلى مافيات تمسك بزمام الحلقات النافذة في المجتمع، وبمفاتيح سلطة القرار في الدولة والسلطة السياسية.
لقد تغلغل الفساد، كما غداً واضحاً اليوم في كل مسامات الدولة في العراق، وتفوق بجرأته واستهتاره، على نماذج عالمية سبقتنا بعقود، وأصبح "الفساد العراقي" بفضل الروح الاقتحامية لفاسدينا المتميزين بالابتكار والمغامرة، معَدّاً للتصدير بامتياز، وحسب الطلب والمواصفات. ويتمتع الفساد المنتج في العراق "بالمناعة" ضد كل المخاطر والتهديدات، بعد أن اكتسب "المقاومة" ضد "المُثُل الأخلاقية" والقلق من الرقابة والمساءلة، وفقد الاهتمام والمبالاة بأي رادعٍ معنويٍ ضاغطٍ قد يخفف من مظاهر الغلو والمبالغة في تلاعباته وعملياته الاحتيالية.
لقد جاء الانهيار الفجائي للدولة، وما رافقته من مظاهر الانفلات الأمني وغياب البدائل السياسية الحاكمة والسلوك العبثي القصدي لسلطة الاحتلال المدنية والعسكرية وتدابيرها وقوانينها المتناقضة، كعوامل مشجعة لنمو متسارع لظاهرة الفساد وتوسيع لميادينه وأدوات ممارسته وتكريس قيمه في المجتمع الممزق بفعل الاستبداد، وبحكم الاحتلال الذي خلفه.. وزاد من تداعياته ، "تجريد" الدولة المبادة من طابعها "المؤسساتي" الذي من دونه لا يمكن للدولة الحديثة الديمقراطية أن تستقيم وتؤدي الوظائف المدنية الموكولة لها، ومن بين أهم هذه الوظائف وأكثرها تأثيرا في حماية مقوماتها إرساء الأسس الكفيلة بالتصدي للظواهر المرضية التي تستهدف المجتمع والدولة، وفي مقدمتها ظاهرة الفساد والتجاوز على الحق العام والحريات.
إن "الدولة البديلة" التي خلفها النظام السابق والتي اعتمدت سلطة الاحتلال في إعادة بنائها على أحجار وفضلات الدولة الاستبدادية، ورثت عنه "كياناً هشاً" مجرداً من المقومات الأساسية للدولة المعاصرة، الدولة المؤسساتية، فخلقت بذلك نواتات تصدع بنيانها وتعثر تكوينها. ومثل هذا التكوين بيئة مثالية للفساد وكل الأمراض الاجتماعية والاقتصادية والسياسية السارية في البلدان المتخلفة في العالم الثالث، وما يشابهها من البلدان التي أعيد بناؤها على ركام بلدان "العالم الاشتراكي".
ومن الواضح أن "فسادنا الوطني" أصبح "ماركة عالمية" يتسابق العالم "الدوني" على كسب رضا رعاته وأصحاب النفوذ والفضل في توزيع أسهمه بكل تنويعاته، بعد أن تجاوز كل الحواجز والروادع والممانعات.
إن ظاهرة الفساد العراقي تتميز "بالشموخ الوطني" إذ يتعالى الفاسدون عندنا ويستنكفون من التعامل بالأصفار الأربعة، وينأون بأنفسهم عن قبول "الكومشنات" والرشاوى، الأرقام التافهة من ذوات عشرات آلاف الدولارات، لا لأنها مجرد "بخشيش" في عالم المال و "البزنس" لا تغري سوى الهواة، بل لأن المتعاطين بها يشكلون هدفاً سهلا لـ "هيئة النزاهة" و "المفتشين العامين" في الوزارات والمؤسسات الحكومية "الفقيرة الموارد وضئيلة الميزانيات"، وهم يجدون في هؤلاء ضالتهم المنشودة، ومبرر استمرارهم في وظائفهم بعد أن أضناهم العثور على "الحيتان الكاسرة" "والقطط السمان" وأرباب السوابق من حاملي "كوبونات النفط" و "تجار النفط مقابل الغذاء والدواء" ممن استعادوا هيبتهم في دولتنا "المضنيّة" العاثرة الحظ. وهيئة النزاهة في واقع الحال مجنيٌّ عليها، فهي مهددةٌ أينما وجهت "عيناتها" وأدلتها الثبوتية، فالمحاصصة الطائفية تتقاسم أيضا مآثر الفساد بـ"النقاط " حسب الاستحقاق الانتخابي، فليس لأحد فضلٌ على آخر ما دامت الحقوق الشرعية مصانة بالنقاط والتراتبية الحزبية والفئوية والمناطقية. ووفقاً لهذا التقاسم يستحيل على النزاهة أن تحرك ملفاً دون أن تلاحق بتهمة الانحياز الطائفي أو الاستخدام السياسي أياً كان الهدف المقصود، وإذا لم تكن التهمة بالانحياز ممكنة ، فتهمة "الاجتثاث" كفيلة بالردع وتسويد الصفحة، وإرغام النزاهة على التفكير مئة مرة قبل أن تسوّل لرئيسها أو العاملين فيها أنفسهم على تحريك ملف أو حتى الإيحاء بوجوده في مكاتبها. وهي في مثل هذه الحالة لا خيار أمامها سوى الاستدارة والبحث عن الأهداف السهلة والمتيسرة في المراتب الدنيا من سلم الدولة الوظيفية واصطياد "اسماك التونة" و"السلطان إبراهيم" والابتعاد عن مجمعات الحيتان واسماك القرش. ولن أورد أكثر من مثلٍ واحدٍ على ذلك، وهو ما يتعلق بجهاز الكشف عن المتفجرات التي تباع بمئات الدولارات، فقيّدت على الدولة بخمسة وخمسين ألف دولار للجهاز الواحد!
ومما يثير العجب في الحياة السياسية العراقية، أن مصطلح الفساد يكاد يكون الترنيمة المحببة لدى جميع قادة البلد، وهي القضية الوحيدة التي تحتل مكانتها الأثيرة "فوق الطوائف" والكتل والتحزبات الضيّقة. والكل يتهم الكل بالفساد، ويلوّحُ بالكشف عن الوثائق الدامغة، لكن أحداً من الملوحين، لا يظهر حقاً ولا بهتاناً ويلتزم جانب السلامة ويُمَتْمِتْ، كلما جاء ذكر تلويحاته واتهاماته بكشف المستور من الأسرار والوثائق الدامغة. ولا ينتهي الأمر عند هذا الحد، فالوثائق الدامغة والبراهين المتوهجة في ضوء النهار اذا ما ظهرت تمحّي حروفها، كما لو أنها كتبت فوق كرة ثلج أو تمثال شمع وتتساقط كما يتساقط البهتان أو أوراق التوت في شاطئٍ للتعرّي، وتنهال المصائب على من يميط اللثام عنها، ولن يسلم من الملاحقة، إن لم يتعرض إلى الاغتيال بالكواتم، أو بالعبوات الناسفة، أو بغيرها مما وفرته المزاوجة بين الفساد والإرهاب والعنف المنفلت في أرجاء البلاد.
و في تحوله إلى ظاهرةٍ اجتماعية تنخر في جسد الدولة، يبدو الفساد مدينا إلى صيغة المحاصصة الطائفية التي أنتجت التركيبة البرلمانية الحالية وجردت السلطة التشريعية العليا في البلاد من حولها وقوتها، وأفقدتها القدرة على ممارسة دورها الرقابي على السلطة التنفيذية ومرافق الدولة. والفساد بهذا المعنى محصنٌ من الرقابة والملاحقة والكشف عن بواطن أسراره والتضييق عليه، لأنه أصبح هو الآخر عنصراً فعالاً في العملية السياسية و "المصالحة الوطنية" وأي مسٍ برمزٍ من رموز الفساد هو بمثابةِ تخريب لها وتعدٍ على مكونٍ من مكوناتها، فلكل فاسدٍ حزب ومن ثم طائفةٌ تتداركه وتتستر عليه وتحميه مثلما لكل بيتٍ ربٌ يحميه.
وإذا ما ألقينا نظرة متمعنة في المظاهر التي تحيط بنا من كل صوب وحدب، لما خانتنا النظرة في إدراك الأسباب والعوامل التي تقف وراء الأزمة المتفاقمة التي تعيش في ظلها بلادنا المتشظية، ولماذا ندور في حلقة مفرغة لا نهاية لدورانها، ومن أين يتغذى مسلسل العنف والعسف والتعديات على المواطنين، ومن أين يمكن أن تبدأ عملية استعادة العافية التي افتقدناها منذ أن أصبحت الطائفية بويلاتها واستحكاماتها الأداة التي تتحكم في مقدرات دولتنا ومجتمعنا المنهك بالفوضى والإفقار للحدود الدنيا من متطلبات العيش "الآدمي" واستطاعت بفعل سطوتها ونفوذها أن تستدرجنا إلى ما نحن فيه من ضيم وجور وإفقار وغيابٍ للتراحمِ والعدل الاجتماعي، بسبب أسرنا وتبديد ثرواتنا ومدخرات أجيالنا القادمة والتحكم في مصائرنا وسد أبواب الرحمة والفرج في وجوه شبيبتنا المتطلعين إلى كوةٍ من الأمل والخلاص.
إن فضيحة الفساد ستظل تلاحقنا، وتلطخ جبين أجيالنا القادمة، ومسلسلات الإرهاب والعنف واللا استقرار ستبقى شاخصة فوق رؤوسنا، ما دامت الطائفية ومحاصصتها وأشكال تواطؤاتها، تتحكم في مسارات الدولة والعملية السياسية وتتفنن في المساومة بين مكوناتها على حساب حقوق شعبنا وكرامة بناته وأبنائه، وتُمعن في سرقة الثروات والمال العام وتغتصب تمثيلنا والادعاء بمشروعية تحويلنا إلى أدوات لتحقيق مصالحها الشخصية والفئوية الضيّقَة، دون أن تُجابَهَ بالإنكار والسخط والرفض والنهوض الواعي لوضع حدٍ نهائي لتجاوزاتها ونفي ادعاءاتها التي باتت مفضوحةً وبلا أي سند أخلاقي.
إن تصفية الفساد ووضع حد للعنف والإرهاب يمر عبر رفضٍ حازم وحاسمٍ للطائفية والمحاصصة كصيغة لإدارة الدولة المستباحة وتقسيم المجتمع المضيَّع بادعاءات تمثيله من قبل ملوك وأمراء الطوائف.
وهذا لن يتحقق إذا لم ندرك انه يتطلب تجاوزنا نحن كمواطنين عراقيين للوثة الطائفية بكل مظاهرها وتجلياتها الرثة.
وهذا ينتظر منا أن ننتفض على ذواتنا التي باتت أسيرة الأوهام التي أقحمنا فيها الإسلام السياسي بكل مفرداته المعزولة عن رحابة الإسلام والقيم الإنسانية.
وتجاوز الذات في لحظة الالتباس وغياب الوعي.. تنير دروبها، هبَّة جماهيرية ونهوض لا يلوي على شيء..!