منذ مطلع الثمانينيات وعلى مدى سنوات طوال عانى العراقيون وبمختلف أطيافهم وانتماءاتهم من تغييب الآلاف من أبنائهم ومحبّيهم في المعتقلات والمراكز الأمنية والمخابراتية والسجون السريّة والعلنية السيّئة الصيت، لينتهي الأمر بأغلبهم في مقابر جماعية غطت العراق بأكمله شاهدا ومثالا حيا لما يمكن ان يصل إليه إجرام الأنظمة الوحشية المستبدة من استهانة واستهتار بحياة وإنسانية وكرامة الفرد والمجتمع.
بعد التغيير، امل الكثيرون خيرا في ان تلتفت الجهات المسؤولة الى مصيبتهم وتدرك حجم معاناتهم وتضع حدا لانتظارهم اليائس والمحبط وهم يتأرجحون ولسنوات بين الشك واليقين والامل بسراب الاوهام، لكن وعلى العكس استمرت معاناة العراقيين وتجلّت بشكل كارثي خلال السنوات من 2005 ولغاية 2008 ولم تنته بشكل قاطع حتى يومنا هذا، من اختطاف وقتل عشوائي وتغييب قسري تحت مختلف المسميات والذرائع وتصفيات طائفية وعرقية ومذهبية والوصول الى اتعس انواع تصفية الحسابات الشخصية او الإجرامية او حتى لأغراض المنافع الضيقة والابتزاز والكسب غير المشروع.. ساعد في استفحالها التسيّب الأمني وانعدام لغة القانون والحس بالمسؤولية الوطنية والضمير الانساني مصحوب بسكوت مريب من جميع الاطراف المشاركة في العملية السياسية في العراق دون تمييز وبمختلف انتماءاتهم والتي كانت نتيجتها اختفاء اثار آلاف مؤلفة اخرى من خيرة شباب وابناء هذا الوطن، وانتهي المصير بمعظمهم أشلاء مبعثرة في الطرقات وفي الانهار والسواقي تتغذى عليهم الديدان والاسماك ويعبث بمصيرهم فاقدو الضمير .. ومن كان حظه كبيرا بإيجاد بقاياه، انتهى به المطاف في مقابر مجهولي الهويّة، والذين واستنادا الى احدث تصريح لوزارة حقوق الانسان العراقية فان مجهولي الهويّة المدفونين والذين تحتفظ دائرة الطب العدلي بصورهم وملفات مواصفاتهم ساعة العثور عليهم اكثر من 14000 شخص، سبعة منهم فقط تمكنت عوائلهم من التعرف عليهم .. اي ان هناك اكثر من 14000 عائلة في هذا الوضع المفجع، ناهيك عن التبعات الاسرية والقانونية والشرعية والاجتماعية المترتبة نتيجة هذا الوضع الشاذ المأساوي ولكوني من إحدى هذه الاسر، اكتب عن معاناتنا الشخصية كنموذج ومثال عن معاناة عامة وتوضيحا للتقصيرالفاضح للدولة العراقية تجاه هذا الملف الحساس وعدم اتخاذ اية خطوة جدية وليومنا هذا لوضع حد لمعاناة ابناء هذا البلد والذي يمثل المفقودين والمغيبين احد اركانه وشريحة مهمة من مجتمعه. ايجاد الحل بنيّة غلق هذا الملف لن يكون وكما اعلن، عبر تشكيل لجنة وتخصيص يوم او يومين لكل محافظة وجرجرة العوائل ونبش جروحهم دون خطة حقيقية بهدف وضع نهاية علمية وقانونية وشرعية لمثل هذه المشكلة .ألا يمكن لمثل هذه اللجنة التوصية لاتخاذ قرار وعلى اعلى المستويات بتشكيل فريق عمل من وزارات العدل والصحة وحقوق الانسان والبرلمان لأخذ عينات من بقايا اعزائنا مجهولي الهوية وتحليل الحمض النووي لهم وحفظه بشكل علمي قانوني موثق.. من ثم دعوة عوائل الضحايا لنفس الغرض بهدف مطابقة التحاليل وتسليم رفات من تتواءم تحاليله الى عائلته لإكرامه وإكرامهم ولو بعد سنوات، كما يدعو الدين والشرع والقانون وبالاستعانة بخبرة العديد من الدول التي مرت بتجارب مماثلة؟ بالإضافة الى بحث جدي وشفاف عن كل المعتقلين المعروفين والمخفيّين الذين لا يزال ذوو بعضهم يبحثون عن اثر لهم، وإطلاق سراح من تثبت براءته او إجراء المحاكمات العادلة لمن يثبت تورطه.أقول ومن منطلق التجربة الشخصية بان الإجراءات المعمول بها حاليا ( هذا اذا كانت العائلة محظوظة باستحصال الموافقات اللازمة) هي الإجرام والاستهانة المطلقة بكل المعايير الانسانية .. بحثا عن شقيقنا المفقود وبعد انتظارنا اليائس لأكثر من سنتين من أي تقدم في تحقيق كنا قد تقدمنا بطلبه منذ عام 2009، قررنا ان نمر بخندق استحصال موافقات اجراء الحمض النووي والذي تطلب التواجد في دائرة الطب العدلي للاطلاع على صور 14000 ضحية مغدورة بغرض التعرف على إحداها من اجل الحصول على الموافقات اللازمة لإجرائنا التحاليل. هل يمكن لأي كان ان يتخيل حجم الألم والفجيعة والقهر ونحن نرصد ونتفحص صور الأشلاء والبقايا لآلاف الضحايا التي تشمئز النفس البشرية عن تقبل فضاعتها، و اقل ما يقال عنها انها مفجعة ووحشية بحق ابناء هذه البلد شيبا وشبابا.رغم ذلك كنا ندعو الله ليوفقنا في تشخيص إحداها ان كان قد قضي لا سمح الله، انهاء لمأساة نعيشها منذ خمس سنوات .. و قلوبنا كانت ترجو ان لا نجده وان نستمر بالتمسك بأهداب الأمل وربما الوهم الذي كان وحده زادنا خلال هذه السنوات. هل هذا ما يستحقه ذوو المفقودين ؟ هل هذا ما يستحقه العراقيون ايا كانوا، بعد عقود الظلام والأمنيات بالغد الأفضل والحلم بدولة النظام والقانون والمؤسسات؟هل هذا هو النظام الإنساني الذي وعدوا به؟ هل على من فقدوا ظلما وغدرا أحبتهم ان يعلنوا عن يأسهم من الحصول على ابسط حقوقهم في معرفة من دمر حياتهم وسلبهم أعزائهم وغدر بهم او اخفاهم او غيّبهم، الم نوعد بدولة القانون وحق المواطن؟rnشه وبو سعاد حبيب الطالبانيمقيمة خارج العراق وموظفة في الأمم المتحدة
بغرض الالتفات إلى معاناة ذوي المفقودين والمغيّبين العراقيين إكراما لإنسانيتهم
نشر في: 6 مايو, 2011: 06:30 م