فخري كريم
(13)
لا يتميز العراق بالفساد وتنويعاته و شموخه الوطني ومآثره في هذا الميدان الكارثي، دون غيره من الابتكارات في تشويه بنية الدولة وقيم وتقاليد المجتمع.
فالتمايز في ميادين هذه الابتكارات إنما هو جزء حيويٌ من نسيج ظاهرة الفساد تندمج وتتوحد معه عضوياً.
ويتعذر تعداد ما تم انجازه على هذا الصعيد، ويصعب توصيف النتائج السلبية التي يمكن أن تترتب بسببها، على أجيالنا المستقبلية، إذا لم يجرِ تداركها ووضع حد لتداعياتها وعواقبها الوخيمة في الأمد المحدود. فتفوق العراق في الفساد من حيث الانتشار والتحول إلى ظاهرة قاهرة، وفي تنوع أشكاله ومظاهره وتجلياته، وضعه في المرتبة الأولى في العالم.. ولعل هيمنة الفساد على مفاصل الدولة ومرافقها ومصادر ثروتها وفي الحياة السياسية والاجتماعية اكسبه الاحترام لسبب مضاف على كل ذلك وهو إقرار حكامه بهذه الحقيقة، وهو إقرارٌ نادر الحدوث قدر تعلقه بالقضايا المعيبة التي تواجه شعبنا يومياً، وما أكثرها في حياتنا المأزومة بكل أنواع الفساد والمباذل والتعديات.
وإذا تجاوزنا ظاهرة الفساد المالي المتمثلة في نهب المال العام، عبر المقاولات الملوثة والسمسرة والشراكة "بالباطن" وإعادة بيع أراضي العقود الاستثمارية، وتداول المشاريع التي "ترسى بالباطن" أيضاً على أقارب وأصحاب، في سوق المقاولات لأكثر من مرة، والتزاوج المالي مع أيتام عدي وأرباب السوابق في كوبونات النفط، والغذاء والدواء مقابل النفط، وتأسيس الشركات عابرة القارات بأسماء وهمية أو صديقة، وشركات "الاوفشور"، إذا تجاوزنا كل هذا الكم من تنويعات الفساد المالي، وهو جزءٌ يسير من فيض لا حدود لمقارباته في عالم المال والأعمال، فسوف نصطدم بمكيالٍ عملاق متكدسٍ بما هو شائن ومعيبٌ في ما تقوم به دولتنا الفتية وما تدور في أروقة سلطاتها الثلاث وتفرعاتها.
وليس من السهل تناول عناصر الفساد الإداري والارتكابات التي يتم إقرارها، خلافاً لكل ما له صلة بالطائفية ومثالبها وانعكاساتها على المجتمع. ويكاد المواطن يموت كمداً ويأساً من هول الكبائر والتجاوزات التي ترتكب بحق الدستور والقوانين وحقوق المواطنين والأعراف العامة "الإيجابية" التي استقرت في وعي المواطنين جيلاً بعد جيل، حتى أصبحت جوانب منها اقرب إلى المقدسات التي لا يجوز المَسُّ بثوابتها. وبعض هذه الكبائر التي ترتكب جليّة للعيان بحيث لا تحتاج إلى قرائن أو شهادات ثبوتية ومحاججة فقهية، ومع ذلك فان رجالات الدولة وسلطاتها الثلاث يمكن أن يقترفوها، دون أن يرف لأحدٍ جفن أو وازعٌ من ضمير، أو تخدش مشاعرهم "لفرط حساسيتها" ونفورهم من العيب! لكثرة ممارستهم لمثيلاتها أو تبريرهم لخطاياها وعواقبها.
ويكفي للتدليل على ورطتنا ومحنة شعبنا، المرور من باب رفع العتب والملامة من أصحاب النوايا الطيبة، على قضية تزوير الشهادات والوثائق و"إيصالات المشتريات الحكومية" البالغة عشرات ومئات الملايين وربما أكثر من مليار واثنين وثلاثة، خصوصاً إذا كان المجال المقصود بالمشتريات والمبيعات سلاحاً أو نفطاً أو بنية تحتية أو مواد بطاقة تموينية أو الطاقة الكهربائية، وغيرها من الخيرات التي وضعت في متناول الفاسدين والمرتشين من رجالات الدولة، ومنهم وزراء أو سعاة ووسطاء.
لكن كل ذلك يهون أمام "انتحال" صفة موقع سيادي في الدولة دون أي مسوغ قانوني ولا احترامٍ للدستور، ولا اهتمام بمشاعر وصلاحيات (٣٢٥) نائباً انتخبوا استناداً إلى دستور مقرٍ ولحمايته من الخرق والتجاوز والتلاعب. والأنكى في كل ذلك ألا يتحرك البرلمان حتى بعد أن تم فضح هذا الانتحال، ليثير القضية داخل أروقته ويتخذ القرار الذي يفرضه الدستور وموجباته، بل واصل النقاش حول انتخاب النواب الثلاثة في "سلةٍ واحدةٍ" كما تطالب (دولة القانون) بذلك أو التصويت على كل مرشح على انفراد مثلما يريد آخرون.
والمشهد المخل المتعارض مع الحدود الدنيا من المسؤولية يتكامل مع الموقف اللا أبالي للادعاء العام الذي لم يتحرك هو الآخر إلا بعد أن رُفِعَت الشكوى إلى القضاء الأعلى، وكأن هناك مهمة أسمى وأجَل من حماية الدستور والسهر على تطبيقه ورد التلاعبات بمواده ومنطقه وفلسفته المبنية على إحقاق حدود العدل والإنصاف.
لقد فرض الدستور في أحكامه، أن يقود الدولة في دورة واحدة، مجلس للرئاسة مكون من ثلاثة أعضاء هم رئيس للجمهورية ونائبان له، يتمتعون جميعا بحقوق ورواتب وصلاحيات وامتيازات متساوية، سوى تمثيلهم في الترميز للدولة وما يدخل في أبوابها. وألغى الدستور في مواد واضحة فيه هذه الحالة الانتقالية، وثبت للبلاد رئيساً "واحداً" بالصلاحيات الكاملة التي مُنحت له في الدستور، لا يتقاسمها معه احدٌ آخر، وأجاز له اختيار نائبٍ أو أكثر، على أن يشرٌعَ ذلك بقانون وتتحدد صلاحياته من قبل الرئيس وفقاً للحالة الملموسة، وليس وفقاً لما كان عليه الأمر في المرحلة الانتقالية، حيث تمتع الأعضاء الثلاث بالصلاحيات ذاتها، حتى أن احد الأعضاء طالب وزارة الخارجية وسفيرا عراقيا في دولة مجاورة باستقباله وفقاً لمراسيم استقبال الرئيس.
وهذا السياق يعني بوضوح أن كل الترتيبات المتعلقة بنائب الرئيس أو نوابه، لا قدر الله، سواء ارتبط الأمر بالرواتب أو المخصصات أو الموازنة التشغيلية أو الصلاحيات أو الامتيازات، خاضعة لاقتراحات يرفعها رئيس الجمهورية إلى البرلمان لمناقشتها وإقرارها بعد التعديلات إن وجد ما يراه ضرورياً للتعديل.
لكن ما جرى هو تجاوز لكل هذه الضوابط، وافترض سلفاً أن النائبين السابقين ظلا محتفظين بمواقعهما، بغض النظر عن موقف البرلمان وقراره بشأنهما، ودون اعتبارٍ لما سيقترحُ لهما من رواتب ومخصصات وأُعطياتٍ، وما تتحدد لكل منهما من مهام ومسؤوليات وهي محدودة على أية حال، تعيش على صلاحيات الرئيس وحاجته لتعاونهما في أوقات ومهام ملموسة لا تتحمل التوصيف المسبق.. واستمر كل منهما بتعريف نفسه في الداخل والخارج كنائب للرئيس، واستلم كلٌّ منهما راتبه السابق، وهو نفس راتب الرئيس باعتبارهما متساويين معه، واستطاعا سحب موازنة تشغيلية (ليس لهما الحق بها في الدورة الجديدة) من وزارة المالية، برغم أنها حق حصري للرئيس للرئيس، ويفترض أن يبحث ما يخصص لهما من قبل البرلمان، وهو لن يكون مطلقاً مساوياً أو قريباً من التخصيص السابق، وسافر السيد طارق الهاشمي إلى عدة دول بـ"مهام رسمية" وبمخصصات رئاسية "ما دام نائباً " والتقى قادة الدول بهذه الصفة وربما تفاوض معهم حول الاتفاقية الأمنية أو الطائفية المقيتة التي يعترف بها وأنحى باللائمة على كل القيادات دون استثناء قادة قائمته لتدهور الأوضاع كما كان يفعل دائماً.
ولكن كل ذلك يتعارض بشكل صارخ مع الدستور، الذي يؤكد أن ترشيح رئيس الجمهورية لنوابه لا يتخذ حكمه القطعي إلا بتصويت البرلمان على المرشحين ومن يفوز بأغلبية الأصوات يصبح نائباً للرئيس، وعدا ذلك باطلٌ ومحكومٌ عليه بتهمة "الانتحال"، فان النيابة تكون قد استقرت لمن انتحل صفتها، دون أدنى إثارة أو احتجاج أو رفضٍ من السلطة التشريعية أو التنفيذية أو القضائية.
لقد نشرت جريدة السيد طارق الهاشمي قراراً منسوباً لرئيس الجمهورية يكلف بموجبه نائبيه السابقين بواصلة مهامها لحين انتخابهما من قبل البرلمان، كما لو أن هذا القرار يجيز لهما انتحال صفة نائب الرئيس الذي ينتظر الانتخاب من البرلمان، وقد لا ينتخب، كما أكدت الجولة الأولى من طرح المرشحين الثلاثة عليه، وكذلك المناقشات الجارية لإعادة النظر بقانون نواب الرئيس لتقليص العدد من ثلاثة نواب إلى نائبٍ واحد لا غير. وفات على السيد الهاشمي وعلى مستشاريه الكثر، إن قرار الرئيس من منطق استناده إلى أحكام الدستور، يخول النائبين السابقين متابعة نشاطهما المكتبي الداخلي، أي استخدام مكتبيهما والموظفين التابعين لهما وما بحوزتهما من سيارات وحراسة وحماية شخصية، لحين مناقشة قضية الأخذ بترشيحهما أم لا. ولم يقصد إطلاقا، وهو رجل قانون خبير بالدستور أن يتصرفا في أي مجال خارج حدود مكانيهما ومكاتبهما بصفة نائبٍ للرئيس! وقرارات الرئيس حتى إذا جرى سهوٌ غير مقصودٍ بإيراده ينتهي بعبارة معروفة ملزمة لكل المسؤولين ومؤسسات الدولة "يسري هذا القرار إذا لم يكن متعارضاً مع الدستور والقوانين النافذة".
وخلافاً لذلك يجري التأكيد على "إلغاء أي قانون أو قرارٍ يتعارض مع ما جاء في القرار المقصود"، ولا يمكن الاعتقاد بأي شكلٍ من الأشكال أن الرئيس بقراره المنشور في جريدة الهاشمي كان ينوي أو يريد أو يرغب بإلغاء الدستور أو قانون نواب الرئيس الذي صوت عليه البرلمان.
إن قرار الرئيس فسر بما يلائم أغراض من انتحل صفة رسمية وتجاوز على الدستور وصرف لنفسه رواتب لا يستحقها "بالمناسبة لنفترض أن البرلمان ضرب عرض الحائط الدستور وتجاوز جريمة انتحال الصفة الرسم