حسين علي الحمداني ما هي أبرز التحديات التي تواجهها الشعوب في مرحلة ما بعد سقوط النظم الشمولية ؟ وكيف يمكن أن نتجاوز تداعيات هذا التهاوي وما يخلفه من تشوهات كبيرة في بنية المجتمع وثقافته؟ وهل ستولد ثقافة مجتمعية بعيدة عن الثقافة الشمولية التي ظلت سائدة حقباً وعقوداً طويلة ؟
في تجربتنا العراقية كانت هنالك مشاكل كثيرة نجمت عن تهاوي نظام الحكم منها اقتصادية وأخرى أمنية وثالثة ثقافية ، وبالتأكيد فإن المعالجات الاقتصادية والأمنية يمكن أن تأتي ثمارها بزمن قصير إذا ما توفرت وسائل دعمها ونجاحها ، ويمكن محو آثارها الاقتصادية بجملة من القرارات والقوانين التي من شأنها أن ترفع من المستوى المعيشي للمواطنين بدرجة أو بأخرى ، وبالتأكيد لا تقتصر مشاكل المجتمع على البعدين الاقتصادي والأمني بل تتعداهما لجانب مهم جدا يؤثر في هذين المحورين ألا وهو الجانب الثقافي أو ما يمكن تسميته بالبنية الثقافية للمجتمع، حيث تبقى دائما آثارا كبيرة تتركها النظم الشمولية لسنوات طويلة بعد سقوطها ، وواحد من الآثار التي تظل راسخة لسنوات تتمثل بالتداعيات الثقافية التي تبقى في الذاكرة الجمعية للمجتمع بعد زوال وتهاوي النظم الشمولية خاصة في المجتمع العربي الذي تتغلب فيه العاطفة على العقلانية وتتجذر في الذاكرة الجمعية للمجتمع حقبة النظام السابق .وسبب ترسخ وتجذر ثقافة هذا النظام تكمن في سنوات حكمه الطويلة والتي يمتد بعضها لنصف قرن متواصل خاصة في ظل مبدأ التوريث الذي سارت عليه الدولة العربية ، وهذا التوريث ليس سياسيا فقط بل هو ثقافي أيضا ويستهدف البناء الثقافي للإنسان كي يضمن بقاءه في فلك النظام أطول فترة ممكنة .ونحن في العراق عانينا كثيرا وما زلنا نعاني من المخلفات الثقافية التي تركها النظام المباد خاصة ما يتعلق منها بمفهوم الثقافة بوصفها عاكسة حقيقية لهوية الشعب لا هوية النظام ، خاصة وإن المجتمع العراقي تأريخيا هو متعدد القوميات والأديان وبالتالي متنوع ثقافيا ولغويا في نفس الوقت لدرجة لا يمكن أن تكون له هوية واحدة تمثل فئة أو قومية أو ديانة دون غيرها.وبات المثقف العراقي في مرحلة ما بعد 2003 غريبا في محيطه العربي لكونه لا يمثل ثقافة نظام بقدر ما يمثل ثقافة شعب متنوع متعدد، وهذا التنوع بحد ذاته غير موجود في النظام الثقافي المؤسساتي في العالم العربي ، وبالتالي يمكننا القول بأن المنظومة الثقافية العربية ظلت تمثل الأنظمة ونوازعها أكثر مما تمثل الشعوب وتنوعها الثقافي ، وبالتالي فإنها رسمت مفهوم السلطة الحاكمة للثقافة ورؤيتها لها وابتعدت عن تمثيل المجتمع وعكس ثقافاته المتنوعة ، وتجلى ذلك بوضوح في عدم قبول عضوية العراق أو إعادته للمنظومة الثقافية العربية في مرحلة ما بعد تهاوي النظام الدكتاتوري.والسبب الجوهري في هذا ناجم من عدم تناغم المشروع الثقافي العراقي القائم على التعددية الفكرية والاعتراف بالثقافات المحلية وتجانسها مع المشروع العربي المرتكز على ثقافة أحادية شمولية غايتها الأولى خدمة النظام الحاكم وصناعة صورة جديدة له بعيدة عن التشوهات التي تحيط به ، وتحاول إضفاء ملامح براقة على هذا النظام .وبالتالي يمكننا القول بأن ثقافة الأنظمة الشمولية تسعى جاهدة وعبر سنوات طويلة لمحو الذاكرة الجمعية للمجتمع وبناء ذاكرة جديدة وتاريخ جديد قائم كما أشرنا على شخصنة الفرد الحاكم وتغييب المجتمع وربط كل الأشياء والمسميات به بشكل تراكمي يصبح بمرور الزمن غير قابل للمحو بسهولة .نحن في العراق عانينا كثيرا من المخلفات الثقافية والتراكمات التي تركها هذا النظام لدرجة بات كل منا يعيد قراءة التاريخ من جديد ليستكشف مواطن التزوير ومواطن المحو في ذات الوقت ، التزوير الذي أصاب التاريخ ، هو أيضا أصاب الثقافة بكل مفاصلها وفروعها ،وبات الكثير منا في الحقبة الماضية ينفر من الشعر والقصيدة لأنها ارتبطت بحقبة مظلمة لم تجد سوى قصيدة الحرب والمدح مكانا لها في المنابر وابتعدت عنا القصائد الوجدانية والغزلية مما أوحى لجيل كامل كان قدره أن يولد في هذه الحقبة أن لا يعرف من الشعر سوى رائحة المعارك وهالات التقديس للطاغية .بدأنا اليوم نتنفس ثقافة جديدة ، كنت أنصت للمربد العراقي الجديد ، برزت القصائد التي استوحت قافيتها من الشعب وذاكرته التي استعادت ذاكرتها بعد أن تخلّصت بشكل أو بآخر من المخلفات الثقافية التي تركتها الشمولية عالقة في ممرات ذاكرتنا وكأنها حقول ألغام لم ترفع بعد من طريقنا.وتجولنا جميعا في معارض الكتاب التي انطلقت في المحافظات كما في العاصمة لتشكل هي الأخرى مفهوماً آخر للثقافة غابت فيه الشمولية وبرزت فيه ثقافة المجتمع بتنوعه الذي ظل غائبا في العقود الماضية بسبب الهيمنة الثقافية للسلطة الحاكمة .
البناء الثقافـي للمجتمع الديمقراطي
نشر في: 8 مايو, 2011: 07:53 م