طارق الجبوريفي موضوع سابق استعرضنا باختصار شديد ظروف نشأة الأحزاب العربية,ونتائج سيطرة صيغ الانقلابات العسكرية على واقعنا وظروفها، وانتهينا بتساؤل عن الذي جرى وما هي النتيجة التي سنحاول ان نركز عليها في هذا الموضوع.ابتداءً لا يمكن للتقييم الموضوعي المنصف ان يتغافل ماتحقق في مرحلة الخمسينيات من القرن الماضي وما تبعها من منجزات كثيرة تحققت بضغط جماهيري وبفعل ظروف المرحلة التي يبدو انها دفعت الأنظمة للقيام بها كتأميم قناة السويس وقوانين الإصلاح الزراعي وقانون رقم 80 وغيرها،
وبغض النظر عن الدوافع لتشريع مثل هذه القوانين، فان محصلة ما تحقق من منجزات كان يمكن ان تتعمق وتنضج وتتطور لو تنازلت زعامات تلك المرحلة عن بعض أنانيتها واعتمدت قليلاً من التطبيق الديمقراطي وإشراك بقية القوى والتيارات السياسية في الحكومة، وفسحت المجال للمواطنين والإعلام بممارسة دورهم على وفق حرياتهم في التعبير عن الرأي وحقهم بتشكيل المنظمات وغيرها من الممارسات التي كان يمكن ان يكون لها ابلغ الاثر في تعميق ما تحقق من خطوات تحمل طابعاً وطنياً لكنها استثمرت من قبل الأنظمة لإسباغ قناع من الشرعية عليها، وهكذا فبدلاً من ان تخطو هذه الأنظمة خطوات أخرى تتجه لخدمة المواطنين عمدت الى اتخاذ منهج، هو في حقيقته منسجم ومخططاتها في تثبيت مواقعها في السلطة، منهجاً مغايراً ولا يمت بصلة لشعاراتها في الحرية وتغليب مصلحة الجماهير التي كانت ترفعها، كان ابرز سماته تصفية أي قوى معارضة و تكثيف جهودها وطاقاتها لقمع كل رأي مخالف مهما كان بسيطاً، بل وصلت الأمور الى حدود خطيرة عندما بدأت (الثورات تأكل أبناءها) دون رحمة.وفي حمى شهوة السلطة وصولجان الحكم تم التنكيل بخيرة المناضلين الذين غيبوا في غياهب المعتقلات وصفوا، أما من حالفه الحظ فقد صار نصيبه الترحال والتنقل اضطراراً من حضن نظام (تقدمي) لآخر، وهو يجتر خيباته وحسراته ويرى ما آمن به وعمل على تحقيقه من أهداف يضيع من بين يديه ووجد نفسه هو وملايين المواطنين فريسة الأنظمة "القومية التقدمية" وجبهات "الصمود والتصدي" التي رددت الشعارات الرنانة على شاكلة حلف العمال والفلاحين وبترول العرب للعرب وتحالفات الأحزاب والمنظمات الشعبية والتقدمية وطبعاً حرب التحرير الشعبية زوراً و حولت أجمل المبادئ واسماها بالتدريج الى "بضاعة كاسدة" تنفر منها الغالبية التي تحملت اكثر من غيرها ممارسات سلطات ظالمة من جانب فيما دفعت من جانب آخر ثمن خطأ تقديرات الأحزاب السياسية وتحالفاتها التي أضفت الشرعية على أنظمة لم يعد همها تصفية المعارضين فقط، بل قلع جذور أي بذرة يمكن ان تنمو وتنتج تيارات تفضح سلوكياتها المنحرفة والبعيدة عن كل ما يجري في العالم من متغيرات لضمان إطالة عمرها أكثر مما ينبغي واستمرارها على إدارة الحكم الذي تحول مرة أخرى الى توريث مقيت.وفي صورة كهذه تحولت أوطاننا الى خرائب ينهش أبناءها الجوع والقهر والمرض، رافقها تعسف وقهر ليس لهما حدود، بل وصل الحال بالمواطن في العراق بشكل خاص الى البحث عن أية وسيلة للخلاص مما هو فيه، بعد ان يئس من إمكانية إجراء التغيير من الداخل بانقلاب عسكري او سواه من الوسائل.وبقينا لسنوات مخدرين نعيش تحت تأثير شعارات هذه الأنظمة "التقدمية"، التي لم تعد تقبل حتى النقد من اجل التقويم وصارت تعد كل صوت يخالف نهجها بمثابة دعوة استعمارية ورجعية. ضمن هذه الأجواء جاءت أحداث التاسع من نيسان 2003 لتشكل في أحد أوجهها حالة (الضرورات التي تبيح المحظورات)، ونظرت الأغلبية من الشعب الى ما حصل بانه نقطة تحول كبيرة يمكن ان تنقل العراق وشعبه الى عوالم أخرى تمهد لإعادة الاعتبار للمواطنة التي انتهكت اذا ما أحسنت القوى الوطنية التعامل معها، رغم ما تكبده البلد من خسائر جراء الانهيار الذي هز بنيان الوطن والمجتمع على حد سواء، فكيف سارت الأمور والى أين؟معروف انه ومنذ ان حدث التغيير او الاحتلال، سمه ما شئت، والمواطنون بمختلف مكوناتهم يسعون باتجاه الدفع الى تثبيت دعائم العملية السياسية الجديدة بشكلها الصحيح، والوصول الى مرحلة التصرف بعيداً عن هيمنة العامل الخارجي سواء الأميركي او غيره او تداخلات العامل الإقليمي والعربي في الشأن العراقي، بقيت الغالبية الشعبية تنتظر وتراقب الذي يجري ويحصل بين التيارات السياسية وعلاقاتها المتشنجة التي انعكست على الوضع العام، ومع كل الأخطاء فإن الشعب العراقي بكل مكوناته ظل متشبثاً بخياره الجديد ويدفع باتجاه تصحيح مساراته وشارك بفاعلية بثلاثة انتخابات الأولى انتخب فيها الجمعية الوطنية والثانية والثالثة لانتخاب أعضاء مجلس النواب، ولم تكن النخب السياسية بمختلف مشاربها تغفل ما تريده الجموع المسحوقة والمحرومة، لذا تراها تعدل برامجها بحسب ما كان يضغط به الشارع ويطمح اليه، فجاءت شعاراتها وبرامجها جميعاً قبل انتخابات آذار/2010 مملوءة بدعوات إصلاح العملية السياسية وتخليصها من شوائب المحاصصات بكل أنواعها.ومرة أخرى تخذل الأحزاب قواعدها وتلتف عليها وتحاول خداعها، عندما حاولت إخفاء طبيعة صراعاتها الطائفية والفئوية الحزبية والعشائرية في عملية تشكيل الحكومة التي تأخرت أشهراً عدة ولم تأت متكاملة بسبب استمرار نفس النهج والسلوكيات بتغليب المصالح الضيقة على حساب مصلحة الوطن والمواطن، بل الأسوأ، وكما يدور في كواليس الكتل، ا
مرة أخرى بعد سنوات من خداع الشعارات..متى يعي سياسيونا أنّ الظروف قد تغيرت ؟!
نشر في: 10 مايو, 2011: 05:30 م