علي النجار في بغداد و في إحدى ليالي عام 1974 كنت أستمع إلى مقطوعات من موسيقى كونكريتية من جهاز المايكروفون الستريو. لم تكن هذه الموسيقى مألوفة لدي قبل هذا التاريخ، لكنها نقلتني الى عوالم فضائية هي بعض من ادهاشية فضاءات السماء البغدادية بامتداد أعماق ظلمتها المشعة زرقة.
الموسيقى هذه، التي صنعتها أدواتها، وليس آلاتها المعروفة، هي خليط من أصداء الرنين الفضائي، وأصوات كائناته الخرافية وهي تمتد عبر أمواجها لصراخ الكائنات اللا مرئية وممرات الأثير الأكثـر ضيقا. ربما كان لتركيز فضاء عزلتي وتوافق صمتي الداخلي ولغة هذه الموسيقى الصوتية اثر في استحضار خيالاتي. لكنني وكما تعودت الصمت أحيانا، فانه وحده لا يحدث هذا الأثر التجسيدي، بما ينبئ باستحضار الأكوان الخيالية التي جسدتها الأصوات الموسيقية الغرائبية لهذه المقطوعات الموسيقية الفوضوية. لقد جسدت لي هذه المقطوعات الموسيقية كائنات وعوالم وأسكنتها مخيلتي. لكن فعل التجسيد صوتا يبقى من اختصاص العديد من الكفاءات الفنية والعلمية والمهنية، وصانعوها هم الذين يضعونا أمام منشآتهم الصوتية الفنية لنجوس خلال فضاءاتها أو فراغاتها وتعددية أصواتها سواء كانت رنينا أو أنغاما ملحنة و ما بينهما من مألوفة أو غرابة، ولنستمتع بمشهديتها كلما هي في اتساع فضاءاتها. (جوليو كونزالز) وبتأثير من التكعيبية في بداية القرن العشرين حرر شكل النحت(الفورم) التقليدي من قوالب كتله التقليدية التي خلفها لنا عصر النهضة الأوروبي وما قبله، من خلال استعماله لقطع وشرائح معدن الحديد بعد إجراء تغييراته الشكلية عليه، بما يسمح للفراغات أو الفضاءات أن تتخلل كتله الملحومة بالأوكسجين، وأنتج لنا منحوتات من الممكن أن نطلق عليها فضائية. تبعه بذلك النحات (بابلو غاركالو(1) ولينفذ لنا هو الآخر إيقونات نحتية مقاربة، لكنها جمعت ما بين تحرر كتلتها من تقليديتها التجسيمية التشخيصية إلى دلالاتها الأعمق إدراكا لعمق التعبير عن جوهر التشخيص ورمزيته الايقونية. و رغم كل ما أجراه عليها من عمليات الهدم والإنشاء، وحتى بجزئيات هي الأقرب إلى النزعة الزخرفية التي تندس بين فضاءاتها المفرغة. لقد صنع كل من هؤلاء الفنانين أعمالهم النحتية ليس من اجل تثبيت ملامح مشخصاتها كما هي، بل من اجل بعثرتها ومحاولة إعادة صياغاتها بما يسمح للانزياحات العضوية أن تفسح المجال لاختراقها بفضاءات المحيط، ولينفذ بصرنا عبر مسالك هذه الفضاءات المفرغة نحتا مضاعفا بمثل ما يسمح لتجسيد وهم مفهوم التمثيل أو التشبيه الواقعي، يسمح أيضا لوهم نحت الفضاء أو الفراغ نفسه. وبذلك أكدت معالجاتهم الأسلوبية انزياحات أجزاء كتل النحت واشتباكها بفضاء الفنتازيا الفضائية، ولتفسح المجال لتجريب انزياحات أعمق واغرب لاحقاً.عرض مركز بومبيدو الباريسي عملا تجميعيا حركيا، في عام(1977)، احتل غالبية مساحة أرضيته. العمل هذا مؤسس على الفوضى. تحرك أجزائه الموصلة أحزمة متحركة تصر تروسها وتئن مفاصلها وهي تحمل في حركة لائبة الكثير من الآلات والنفايات المعطوبة. في هذا العمل المتاهاتي يتساوى فوضى الضجيج وفوضى المحتوى المادي المكون ويحجب عنا المغزى. وهل من المفروض أن يكون ثم مغزى غير ما تحققه نية الفنان من خلق الفعل الفني من الكثير من المواد التي فقدت صلاحيتها. فالعمل إذاً انتشال للفوضى واستبدالها بفوضى أخرى، لكنها تكرر مسارات طرقها الملتوية أمامنا وبدون نهاية. وما يبقى من كل ذلك هو ضجيج أصوات تروسها العبثي. لقد خلق فنانون آخرون أكثر معاصرة، من هذه الفوضى الصوتية أعمالهم. في عام 1994 اخرج ميخائيل دارفورد فيلمه (ساعي البريد) والذي يتناول فيه بعضاً من سيرة الشاعر الشيلي بابلو نيرودا في منفاه في جزيرة سالينا الايطالية وفي المشهد قبل الأخير، والمهم، ومن اجل أن يبعث الصياد ماريو روبولو وصديقه مدير البريد رسالة تقدير ومودة للشاعر الشيلي الذي أبصره بأسرار سحر الطبيعة شعرا، لم يجد ماريو إلا أن يجمع للشاعر أصوات المد البحري، والعاصفة، والطيور، ودقات (نبضات) قلب الجنين(ولده) في رحم أمه. وبمعنى ما، لقد نحتوا هذه الأصوات وأودعوها شريط التسجيل الصوتي. ما فعله ماريو وصديقه هو نفسه ما يفعله صانعو التأثيرات الفيلمية الصوتية. لكنه هنا يتعدى بفعله الرمزي هذا إلى فعل التعليب، كقوالب(فورمات)، قابلة
فـضـاءات المـنـحـوتـات الـصـوتـيـة
نشر في: 17 مايو, 2011: 05:51 م