علاء المفرجي في الطريق الى مكان إقامته مع زميلي علي حسين، كنت معبّأً بفكرة واحدة تغذيها طبيعة مهنتي ، وهي أن أستأثر بحوار مع الشاعر الذي لطالما ملأ الدنيا وشغل الناس بالأسلوب الذي اختاره لحياته، وبشعره الذي تماهى في ملاحم الثورات ونزيف المحرومين..
قيل عنه: (انه من منطقة شعرية محظورة).. خمسة عقود من الرفض والمكاشفة والقصائد المهربة مثل منشور سياسي.مظفر النواب هبط بالشعر من علياء الاولمب إلى حيث مزاج العامة، أولئك الذين وجدوا في شعره انعكاساً لآلامهم.. هو لم يكتف بذلك بل حمل روحه الشعرية على راحتيه وانغمس معهم في الكفاح من اجل خبزهم وحريتهم.. إنه التجسيد الحقيقي لمقولة الشاعر والسينمائي الايطالي بيير بازوليني ((الشاعر الذي لا يخيف من الأفضل له ان يهجر العالم)).. هو إذاً الشاعر الذي لم يكن يأمل من شعره الخلود المرتجل، بل بما يمكن لهذا الشعر في ان يكون سلاحاً مثل ما هو أغنية للذين يمّمون جباههم شطر الحرية. في حضرة النواب تلاشت هذه الفكرة، فأمام الحضور الطاغي للشاعر بل أمام تاريخ من الكفاح والشعر، ليس انت من يبادر او يقرر شكل اللقاء.بعد ان قدمت نفسي إليه وزميلي علي حسين شكرني على تحيته في (المدى)، بمناسبة عودته الى بغداد وهو ما شجعني على أن أبادر بطلب إجراء الحوار معه.. اعتذر بسبب حالته الصحية ووعدني بحوار مطول في ما بعد قائلاً، انه بحاجة الى ان يرى العراق لتكتمل الرؤية.. لكنه اقترح ان (نسولف) .. وهذا أيضاً يرضي فضولي.. تواطأ مع خبثي الشاعر كاظم غيلان الذي كان حاضراً وكان أول من التقاه من أصدقائه في بغداد، في ان نقتنص ما سوف (نسولف به) .كان من الطبيعي أن يكون مبتدأ الحديث عن بغداد (ديرته) وهو الذي غادرها شاباً يضج بالعنفوان، وعاد إليها شيخاً كهلاً يستعين بابن أخيه (ضرغام) الذي سرني ان النواب انتفض من غفوته في الطائرة ما ان سمع نداء طاقمها معلناً دخول أجواء بغداد ليتطلع من النافذة مستطلعاً ملامح المدينة التي غادرها مرغماً منذ أكثر من أربعين عاماً.يقول النواب:بغداد مدينة مبدعة، الإبداع ليس للأشخاص، المدن هي المبدعة..يقاطعه كاظم غيلان ليسأله: بعد أربعين عاماً هل تلاشت صورة بغداد في مخيلتك؟يصمت النواب، وكأنه يهيئ للرد على تهمة وليس على سؤال.. يقول:بغداد في مخيلتي أبداً .. لم تتلاش صورتها .. على العكس كانت تقاوم الإمحاء وكنت أنا أستعيدها في كل لحظة على مدى هذه السنين الطويلة، وكأني لم أفارقها.. بغداد عالم من الجمال، حتى الزوايا المهملة فيها تضج بالجمال، مدينة تمنحك ألواناً لا تعرفها من قبل.. لديها طيفها الشمسي الخاص ، ألواناً أخرى غير تلك التي يضمها قوس قزح، خذ مثلاً منائرها الملونة والمشغولة بالقاشان.. أنا زرت أكثر من عاصمة عربية منائرها جميعها كانت بألوان كابية، لون الاسمنت مثلاً.يستدرك بعد ان يكفكف دموعه قائلاً:أول قدرة على الخلق كانت هنا، ليس المهم الخلق بل القدرة على الخلق. ربما لهذا السبب أرادت بعض الأنظمة العربية ان تجعلها قمامة التاريخ.. أنظر الآن هم ذاهبون إلى القمامة تباعاً، بينما بغداد تستعيد بهاءها ، إنها مثل طائر الفينيق تنهض من رمادها .. الطريق الوحيد، الانتقام الوحيد للخراب الذي أحدثوه هو أن نقيم لبغداد أعراساً وكرنفالات.. أستعيد هنا بعض ما قاله في قصيدته الرحيل:إني أرى يوم انتصار الناس رغم صعوبة الرؤيا وأسمع من هتافي في الشوارع سيما في ساحة التحرير يقول : أنا ابن نخبك يا عراق وليس ذي أمل كليل بغداد، ابن محلاتها الشعبية ، من درابينها، من دكاكينها.. يستدرك قائلاً لي: انتبه كيف هو لفظ الضمير الغائب الـ(هه) وليس (ها)، قالها بالعامية.أبادره بسؤال قصدت منه أن أقف عند روح شاعر حمل الوطن مثل صليب في رحلة الشعر والنضال. وكان الوطن امامه حيث ما يقف. أسأله عن تلك اللحظة التي وطئت بها قدمه ارض الوطن، وان كنت أعرف انه سيستطرد مرة أخرى ليحيل الموضوع إلى فكرة أخرى يرى انها يجب ان تقال.يقول النواب:لقد عاودني كل ذلك العنفوان الذي أعرفه بي، ويعرفه الرعيل الذي عاصر الكفاح من اجل حرية هذا الوطن.. لحظة وصولي التقيت (الأخ مام جلال)، فبيني وبين هذا الرجل تاريخ من الصداقة والوفاء، استعدت معه سنوات مليئة بالأحداث.. صادفت أطفالاً صغاراً، بسمرتهم التي تزيل كل الأوساخ ، الطفل العراقي يختلف عن كل أطفال العالم انه عالم من التموجات والجماليات، وجوه الأطفال تنطق بالحياة، سمرتهم أيضاً تنطق يتوقف قليلاً ثم يستأنف قائلاً:لأذكر لك حادثة عايشتها قبل أكثر من خمسين عاماً عندما تعرض عبد الكريم قاسم رحمه الله الى محاولة اغتيال.. كان الجميع بانتظار المرحوم فاضل عباس المهداوي الذي سيترأس في ما بعد محاكمة المتهمين بهذه المحاولة.. كان المهداوي في حينه في الصين، وحال وصوله الى المطار استقل سيرته الى المستشفى الذي كان يعالج فيه قاسم، وفي الطريق إليه كانت جموع الناس تصرخ.. (جاهم ابو العباس) وكان من بينهم طفل صغير مد يديه داخل السيارة عند وجه المهداوي وصاح:(جاهم ابو العباس).. فمسك الأخير يده وقبّلها .. يضيف: هذا تاريخ يريدوننا ان ننساه لإرضاء الرجعية .. أي تفكير في مداهمة الرجعية ومحاولة إرضائ
الشاعر مـظفر الـنـواب:بغداد في مخيلتي أبداً.. تقاوم الإمحاء وكنت أستعيدها في كل لحظة
نشر في: 18 مايو, 2011: 05:39 م