TOP

جريدة المدى > المنتدى العام > ما بين جيلي الترانزستور والإنترنت

ما بين جيلي الترانزستور والإنترنت

نشر في: 27 مايو, 2011: 05:45 م

د. عبد الله المدنينحن جيل الخمسينات أو الجيل الموصوف ظلماً بـ "جيل الهزيمة"، أي الجيل الذي ولد أفراده قــُبيل أو بـُعيد انتصاف القرن العشرين، وتشكلت رؤاهم الفكرية واكتمل نضجهم ووعيهم مع بزوغ عقد السبعينات أو قبله ببضع سنوات، عشنا في فقر مدقع إلى الدرجة التي لم يكن الواحد منا يملك قوت يومه، أو مخدعه الخاص، أو عدة قروش إضافية ليشتري بها جريدة يومية يستقي منها آخر أخبار العالم. فقط الموسرون منا كانوا قادرين على الاستمتاع بذلك الترف، بل كانوا يمتلكون أجهزة الترانزستور التي غزت بها الدول المتقدمة مجتمعات العالم بأسره، فشكلت هويتها ووجهت بوصلتها (ظهر المذياع الترانزستور لأول مرة في الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1947 ، قبل أن يطوره اليابانيون في عام 1954 وينتجون منه البلايين للتسويق بأسعار رخيصة في عقدي الستينات والسبعينات).
والكلام نفسه ينطبق على أجهزة التلفاز (يعود الفضل في اختراعها في العقد الثاني من القرن العشرين إلى الاسكتلندي "جون لوجي بيرد" والأمريكي "فيلو تايلور فارنسوورث") التي كانت في تلك الحقبة لا تلتقط سوى قناة واحدة باللونين الأسود والأبيض، ولا يتجاوز دورها دوري الترفيه والتثقيف البريئين، بمعنى أنها لم تكن تبث الدعايات والإعلانات الاستهلاكية المفرطة من تلك المثيرة للحنق، أو البرامج السياسية المثيرة للجدل، بما فيها نشرات الأخبار المحرضة أو الحوارات الأيديولوجية الفاقعة.لقد دار بنا الزمن، وطال بنا العمر حتى ولجنا بوابة القرن الحادي والعشرين لنرى نتائج ما أحدثته العقود الأخيرة من القرن العشرين من متغيرات رهيبة في القيم والسلوكيات والعادات والأفكار، بالتزامن مع انقلاب إيجابي في مستويات المعيشة وأشكالها (على الأقل في منطقة الخليج).وهكذا رأينا أن الجيل الذي كان لا يذهب إلى فراشه إلا وهو متأبط جهاز ترانزستور صغير (ماركة سوني أو توشيبا أو هيتاشي أو إيوا)، مؤشره مصوب في الغالب الأعم إلى إذاعة ألـ "بي بي سي" البريطانية أو إذاعة "صوت العرب" المصرية، ليستقي من أحدهما أو كليهما مجريات الأحداث في العالم المترامي الأطراف، مصحوبة أحيانا بتعليقات تحريضية أو تحليلات مغرضة بحسب الأجندة السياسية للدول الراعية لتلك الإذاعات، حل مكانه جيل مختلف، لا يذهب إلى مخدعه إلا بصحبة جهاز "اللاب تاب" - الذي لا يختلف كثيرا ما أحدثه من انقلاب في حياة شباب اليوم وعاداتهم عما أحدثه الترانزستور في حياة شباب الخمسينات والستينات - فيلتقط من على شاشته مئات الفضائيات، والمواقع الإلكترونية، ومواقع التواصل الاجتماعي العربية منها والأجنبية، ويستقي منها، ويبث من خلالها الأخبار والرسائل الطازجة - سواء أكانت مرسلة من أو إلى "ووغودوغو" الإفريقية أو "وولومولوو" الأسترالية دون أن يكلفه الأمر سوى "كبسة زر"، بحيث صارت مقولة "إن العالم قد تحول إلى قرية صغيرة أو حجرة استقبال ضيقة" حقيقة لا مراء فيها!ومشكلة هذه الثورة التكنولوجية الحديثة في عالم الإعلام والتواصل، التي لم تساهم شعوبنا وبلداننا فيها بمجرد مسمار صغير، أنها مليئة بالغث والسمين، وبالصالح والطالح. بمعنى أنها تتيح للجميع - أفراداً أو جماعات حقوقية مغرضة أو تنظيمات مرتبطة بدول وحكومات – أن تسطـّر وتبعث وتروج، دون سيطرة أو رادع، ما تشاء من أفكار وأطروحات ومفاهيم وأخبار، تحت أسماء وهمية أو حقيقية. فتتولد من هذه المشكلة مشكلة أكبر هي السيطرة على عقول الشباب والصغار ومن في حكمهم ممن لم يكتمل وعيهم ونضجهم، وبالتالي زرع كم كبير من الأكاذيب والتلفيقات والإدعاءات فيها، وصولا إلى استخدام تلك العقول الطرية في مخططات ومؤامرات ضد أوطانها تحت يافطة المحرومية، أو المظلومية، أو الحريات والحقوق. وهذا ما لم يواجه جيل الترانزستور، بسبب اختلاف تقنيات الأخير وبالتالي محدودية سطوته على العقول والقلوب.وبطبيعة الحال، فإن كل غريب  ومستحدث هو سلاح ذو حدين، غير أنه في الوقت الذي يستخدمه أصحابه ومكتشفوه بما يعود عليهم بالفائدة، وتهذيب السلوكيات، وتعزيز القيم التي قامت عليها نهضتهم، وتفعيل المدارك والمواهب الكامنة، نجد أن شعوب العالم الثالث المستهلكة، غالباً ما تستخدمه في السفه والتفاهات، أو نشر الرذيلة، أو التحريض على العنف والتخريب، أو إيقاد نيران الفتن الدينية والمذهبية، أو ازدراء الآخر المختلف، أو رمي الناس بأقذع الشتائم والاتهامات الجزافية.واستطراداً يمكن القول أن الجيل القديم، على الرغم من فقره وقلة حيلته وبؤسه المعيشي المعروف وتواضع تواصله مع الآخر، ناهيك عما كان يختلج فؤاده من أحلام ثورية رومانسية زرعها أثير الترانزستور ، لم يجد في كل هذا مبررا لحمل السلاح والانخراط في الجماعات الإرهابية، أو لشق عصا الطاعة على مجتمعه، أو لتخريب وإتلاف الممتلكات العامة والخاصة، بينما الجيل الحالي، رغم كل ما هو فيه من رفاهية وراحة، وكل ما يملكه من وسائل معرفية، يثبت يوماً بعد يوم أنه جيل جزوع، لا مكان في قاموسه للصبر والكفاح المعيشي، بل يستخدم كل ما تحت يديه من وسائل الترف والثورة التكنولوجية لإلحاق الأذى بنفسه ومستقبله، وحرق وطنه ومجمل مكتسباته، كيلا نقول تسليم عقله لمن يريدون تضليله وتلويث ضميره.إنها بإيجاز شديد حالة جيلين: الأول تربى على القيم الأصيلة، ودرس في معاهد تربوية صارمة، وتلقى العلم على أيدي مربين أكفاء مخلصين لمهنتهم، وتشرب مناهج تربوية معتدلة في مضامينها ونظرتها إلى الآخر المختلف، وترعرع في وسط أسر غيورة على بلادها، ولاؤها الأول للأرض والوطن قبل العقيدة أو المذهب أو الإيديولوجيا. والثاني جيل تـُرك له العنان ليستقي قيمه من المنابر

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

كاريكاتير

كاريكاتير

ميثم راضيميثم راضي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram