حسن عبيد عيسىلابد من الاشارة عند نقطة البداية.. إلى أننا نقصد بالأجهزة الأمنية.. القوات المسلحة بأفرعها الثلاثة (القوات البرية والبحرية والجوية) وقوى الأمن الداخلي من شرطة بجميع أصنافها واختصاصاتها وتوابعها، وأجهزة أخرى تقع ضمن قائمة الاستنفار عند الطوارئ.. مضافا إليها أجهزة المخابرات وحرس الحدود والأجهزة ذات الطبيعة الخاصة التي تهتم بالأمن الوطني والتي يكون لها تأثير على الأحداث ومجرياتها، بسبب طبيعة تنظيمها أو ما تمتلك من قاعدة بشرية وأسلحة وتجهيزات.
فالتنظيم وحجم الكتلة البشرية المنضوية تحت مسميات تلك الأجهزة إضافة إلى عدتها القوية المؤثرة، أمور تجعل منها أداة مرهوبة الجانب ذات تأثير خطير قد يقود المجتمع برمته نحو الاتجاه الذي تسعى إليه، ونحن شعب لنا تجاربنا المريرة مع تلك الأجهزة من خلال الانقلابات والثورات التي حصلت في تاريخ العراق المعاصر.. والتي لعبت تلك الأجهزة خلالها بدور خطير قاد الوطن إلى حيث تريد تلك الأجهزة. من هنا لاحظ المُنظّرون في مختلف دول العالم، أهمية أن تجرد الأجهزة المؤثرة على المجتمع، (وهي التي بيَّنا هويتها المهنية آنفا)، من أي ولاء عدا الولاء الوطني الصرف.. فليس ثمة مجتمع يخلو من اصطفافات فكرية متباينة الرؤى متعددة الاتجاهات.. ما يعني أن انحياز الأجهزة الامنية أو بعضها إلى أي من عناصر تلك الاصطفافات، قد يُغلِّب أحد الأجنحة التي تشكل الاصطفافات تلك.. وبالتالي قد يعود بالسوء على الوطن نتيجة ذلك الانحياز وما يجر من احتراب متوقع واقتتال لا يستفيد منه الوطن والمجتمع بقدر ما سينجم عنه من فوضى وتخريب. ففي العهد الملكي لم تكن الحكومات المتعاقبة قادرة على ضمان ولاء الجيش، وهو عندنا القوة الأعظم والأكثر تأثيرا على عموم الساحة الوطنية، لذا فإن قانون العقوبات العسكري اهتم بقضايا قد لا تؤثر على الانتماء المسلكي والاداء المهني بقدر ما تحسس رجال الجيش بخطورة تفكيرهم في اتجاهات قد تعد تحزبية أو تكتلية ربما تقود الى الخروج عن طواعية المؤسسة التي أريد لها أن تكون منقادة الى السلطة تماما، أو على الأقل أن تكون محايدة.. فليس من حق العسكري الانتماء الى مؤسسات المجتمع المدني، وعندما يكون الأمر ضروريا كالانتماء الى المؤسسات العلمية أو المهنية البحتة خصوصا بالنسبة للمهندسين والأطباء ورجال القانون وغيرهم، فإن عليهم استحصال الموافقات الرسمية اللازمة، وليس للعسكري حق التصريح لوسائل الإعلام، إلا إذا أعلم مراجعه بذلك مسبقا، وليس له أن يلقي محاضرة مهما كانت طبيعتها، مالم يكن مرجعه الأعلى (رئاسة أركان الجيش) قد وافق مسبقا بعد أن يكون قد اطلع على نص مكتوب لتلك المحاضرة. من هنا أريد تحسيس العسكري أنه لا يجوز له التحليق في فضاء ذي صفة فكرية مهما كانت تلك الصفة، فهو سيلاحق قانونا ويردع لأبسط الأمور كإلقاء محاضرة ليس لها علاقة بالسياسة ولا بمهنته، إلا أن الغاية هي تحسيسه بأن اصطفافه مع أي من مؤسسات المجتمع المدني حتى وإن كانت غير مؤدلجة، أمر غير مسموح به، فما بالك بالانحياز الحزبي؟ وعندما انقلب الجيش على النظام الملكي لدواع وطنية بسبب سياسات عبد الإله ونوري السعيد وقادة الحكومات المتعاقبة التي كانت تميل الى بريطانيا أو أمريكا، فإن الشعار الأهم الذي رفعه عبد الكريم قاسم في هذا المجال هو (الجيش فوق الميول والاتجاهات).. خصوصا وإن هناك جهات فكرية متناحرة ذات تأثير كبير على المجتمع يخشى من تغلغلها داخل الجيش كالحزب الشيوعي وحزب البعث والقوميين العرب وغيرها من اتجاهات، كانت تعمل على جذب واستقطاب العسكريين، وهو الأمر الذي يقود بالتالي الى امساكها بورقة ليست رابحة فحسب، بل ذات قدرة على قلب الطاولة على رؤوس باقي الأطراف والجهات المناوئة، من اللاعبين. ولغرض احتكار الجيش وبقية الأجهزة الامنية، فإن النظام الذي قام في البلاد منذ عام 1968 رفع شعار (الجيش العقائدي).. وهذا سلوك خطير جدا بسبب الرغبة في تكريس الهيمنة وسلطة الحزب الواحد.. وهو كان الاشارة الأولى الى نهج الاستبداد الذي كان النظام ينوي سلوكه من خلال تكريسه نظرية (جئنا لنبقى).. فليس هناك مجال للتفكير في حدوث تغيير في السلطة مهما كانت طبيعته، خصوصا وإن القوات المسلحة أفرغت بشكل قاطع وتام من كل العناصر ذات الاتجاهات الفكرية الأخرى، لا بل تعدى الأمر ذلك بكثير، فلم يعد ثمة مكان لمستقل، فهو طالما كان في الجيش، فهو مع السلطة وحزبها، أو عليه المغادرة فورا. إن أمر تسييس الأجهزة الامنية الذي مارسه النظام المُغادر والذي عاد بالسوء والخذلان على الشعب والوطن، عاد الآن ليمارس بخطورة أكبر مع توقع لأفدح النتائج والعواقب.. فالجيش وبقية الأجهزة الأمنية لم تسيس فحسب، وإنما جردت من كل كفاءة، في مسعى لتجهيلها وتخلفها المتعمد، بدليل أن بعض الضباط من فئة القادة والأمراء لا يملكون من العلوم والفنون العسكرية ما يجعلهم مهنيا مؤهلين لهذا المنصب.. المهم أن هذا العنصر له حق على حزب ما من الأحزاب المؤثرة في الفضاء السياسي، فهو لابد من مكافأته بمنحه صلاحيات قيادية وإن لم يكن مؤهلا لها، ولعل وجوده في المؤسسة العسكرية سيضيف ورقة رابحة الى ذلك الحزب تستثمر عند الحاجة!!.. المشكلة أن هذه الصيغة وإن لم تكن كفيلة بإملاء الشواغر التي حصلت نتيجة لتطهير القوات المسلحة والأجهزة الأمنية الأخرى من العناصر الكفوءة مهنيا بسبب من الخوف غير المبرر منها، إلا أنها وضعت في تلك الاجهزة ألغاما
تسييس الأجهزة الأمنية والالغام البشرية
نشر في: 28 مايو, 2011: 06:51 م