فخري كريم
(1)
بدأ العد التنازلي "لقيامة الحكومة" التي تحلُ على العراقيين مع حلول اليوم المئة من الوعد الحكومي بتحقيق المطالب الشعبية
التي جرى التعبير عنها في المظاهرات الاحتجاجية التي عمت البلاد، وسقط في مواجهاتها السلمية مع القوات الحكومية العشرات من الشهداء والجرحى والمئات من المعتقلين.
ولأول مرة منذ انهيار النظام الاستبدادي في ٩ نيسان عام ٢٠٠٣ كشفت الحكومة في ظل "النظام الديمقراطي" عن مفهوم آخر للحوار مع المواطنين، وذلك بلغة الرصاص وخراطيم المياه والغازات المسيلة للدموع، وهو ما لم تعتد الجماهير عليه في ظل الأنظمة الدكتاتورية المبادة وتحت سلطة البعث الصدامي، حيث كان مجرد التجرؤ بالتفكير المُضْمَر بالمعارضة يودي إلى التهلكة. لم تكن ثمة معارضة بالمعنى التقليدي والأولي للمعارضة آنذاك، فبقيت الاحتجاجات حبيسة الصدور وبانتظار حل "قدري" لإنقاذ البلاد والعباد من الدكتاتورية، التي ما أن سقطت حتى بدأت الناس تحلم بحياة تستطيع أن تعبر فيها عن احتجاجها وانتقاداتها، ورأت الناس أن التظاهر هو الوسيلة الأكثر ديمقراطية للتعبير عن مشاعرها ومواقفها، لكن الإجراءات المقابلة لم تكن ديمقراطية، فاستخدم الرصاص والخراطيم والغازات ومعها الاعتقالات.
كما لجأت حكومة ما بعد الاستبداد التصدي للحركات الجماهيرية إلى اعتماد الإشاعات والاتهامات لإجهاض التظاهرات أولا قبل أن تجرب الرصاص والاعتقالات الكيفية، كمأثرة تحسب لها.
ليست هذه مأثرة الحكومة الفريدة، وهنا لابد من الإيضاح أن ما اعنيه بالحكومة، يشمل كل الأطراف المشاركة فيها، رغم الادعاءات من هذا الطرف أو ذاك بالتميّز في الموقف إزاء السياسة والنهج والأساليب التي تعتمدها حكومة السيد المالكي في مختلف الاتجاهات والميادين، وفيها جميعاً من المآثر ما يشيب لها شعر الرضيع.
لقد راهنت الحكومة، كما يبدو على ثلاثة عوامل في استهانتها بالمطالب الشعبية، وركونها إلى السكينة في تجاوزها، والتقليل من تأثيرها. تمثل العامل الأول في تراجع الحركة الاحتجاجية الذي عبرت عنه، كما تسيء التقدير، محدودية تواصل التظاهرات في ساحة التحرير ببغداد، وغيابها تقريباً في المحافظات، والعامل الثاني، ينعكس في ما يبدو في فهم الحكومة وأطرافها للتحركات والتغيرات التي شهدتها المنطقة وعصفت بأنظمة شمولية مستبدة، منطلقة في هذا الفهم القاصر بأنها غير معنية بما يجري، وغير مشمولة باتجاه رياحها، لكون "نظامها ديمقراطي" يحظى بقبول الشعب واستُفتي عليه في أكثر من مرة، وأخيرا ترى الحكومة أن الإصلاحات التي يجري الحديث عنها، تنطوي على "طابع تآمري" وعلى استهداف لها من قوى تترصد بالنظام الديمقراطي وتسعى للانقلاب عليه بمختلف الوسائل، ومنها خلق مناخ سياسي يمهد لإسقاطها عبر المظاهرات وتصعيد الحركة الاحتجاجية السلمية التي لا تعترف كما أكدت بطبيعتها "السلمية".
والمفارقة في منطق المحاججة التي تعتمدها الأطراف الحكومية في مواجهة النقمة الشعبية جراء الاستخفاف بما تقاسيه من معاناة شظف العيش وانعدام الخدمات وتوقف حركة الاقتصاد والمشاريع بما يكرس البطالة.. كانت المفارقة تكمن في الاعتقاد السائد في أوساط الحكومة المتنفذة بان قوى الاحتجاج والنقمة تستند إلى دوائر خارج محيط قواعدها الشعبية وناخبيها وطائفتها.! وكان هذا المنطق يقود الحكومة إلى الاعتقاد بان استهدافها، إنما هو استهداف لمشروعها في "إزالة المظلومية التاريخية" عمّن تدعي تمثيلها لهم دون وجه حقٍ في مثل هذا "التمثيل" وهو ما أكدته سياستها ونهجها العملي الذي لا يستجيب ولا يلبي الحدود الدنيا مما تنتظره جماهيرها المباشرة، ناهيك عن الأوساط والقوى الاجتماعية والسياسية الأخرى خارج دائرة التمثيل المقصودة، إذا استثنينا المستفيدين المباشرين من أفضال وغنائم السلطة والنخبة الحزبية الضيقة المحيطة بها وبطانتها.
إن الكتل الحاكمة، بغض النظر عن مستوى تمثيلها ومواقعها، لا ترى بوضوح قوة العاصفة التي هدَّتْ أنظمة وقيادات تلبَّسَها الشعور بديمومة وخلود سلطتها وأوهامها بان الزمن كفيل بتجاوز مفاسدها وتجريد الذاكرة الجمعية من وقائع تلك المفاسد ونهب المال العام والتعدي على المواطنين. وهذا الوهم كان دائماً وراء تمادي الحكام والأنظمة في مصادرة إرادة الشعب والتضييق على حقوقه وحرياته، عبر سلسلة من المراحل التمهيدية وصولاً إلى فرض سطوتها وتكريس الاستبداد في الحلة السياسية وتقويض أركان الدولة المدنية.
ويرتبط بهذه النظرة السياسية القاصرة للطبقة الحاكمة ونخبتها من "حديثي النعمة" من الفاسدين ونهّابي المال العام، عدم التمييز بين "النظام" و"الحكومة" أو ربما يفتعلون عدم المعرفة بالفرق الجوهري بينهما، لكي يتمكنوا من اعتبار أي معارضة أو موقف أو تظاهرة ضد الحكومة على أنها تآمر يستهدف إسقاط النظام "الديمقراطي". ومن هذا المنطلق جرى التصدي للمظاهرات الاحتجاجية المطالبة بالإصلاح بالرصاص وخراطيم المياه والغازات المسيلة للدموع والاعتقالات الكيفية والتعذيب اللا إنساني.
وإذا ما قمنا بجردٍ منصف لما قامت به الحكومة، وأؤكد ثانية المعنى الشمولي للحكومة التي تضم السلطات الثلاث وتوابعها، فان النتيجة ستكون لغير صالحها دون أدنى شك، بل أنها ستقود إلى المزيد من عزلتها وعجزها عن تلبية أي مطلب جماهيري، حتى على مستوى التمنيات والآمال المؤجلة. ولم تعد هذه النتيجة "صادمة" للحس الشعبي العام، لان الملايين أدركت بتجربتها خلال السنوات التي أعقبت سقوط الدكتاتورية، وبفعل معايشتها للنخب الحاكمة الجديدة ومشروعها المبني على المحاصصة الطائفية والتوافق الحزبي على الغنائم الحرام، أن هذه الصيغة في الحكم عاجزة عن تحقيق أي خطوة في اتجاه تكريس إرادة المواطنة، واستكمال بناء الدولة الوطنية الديمقراطية، دولة القانون والحريات وحقوق الإنسان، وبدون إنجاز ذلك يستحيل تجاوز المظاهر السلبية الخطيرة التي تقف في أساس الخراب العام وإنهاك المواطنين بكل ما يؤدي إلى المزيد مما يعانون منه.
فالنتائج المرجوّة عن الأيام التسعين من الوعد المئوي للحكومة، وهي الفترة الافتراضية لإجراء مقدمات الإصلاح السياسي والاقتصادي والخدمي في البلاد، تم التنصل منها في الأسبوع الأول من الوعد، بإعلان رئيس مجلس النواب بان أكثر من تسعين بالمئة من مطالب المحتجين هي من مسؤولية الحكومة!، وبدورهم أعلن ممثلون وناطقون باسم الحكومة بان تكبيل الحكومة بمثل هذه المطالب وفي فترة مئة يوم، إنما هو أكثر من تعجيز، بل تطوع وزير سابق ونائب رئيس حالي، بالإعلان الصريح، بان الشعب كله لو خرج إلى الشارع فانه لا يستطيع فرض أكثر مما هو متحقق.! وفي ظني أن هذا المسؤول في التحالف الوطني الحاكم كان أوفر حظاً في التعبير عن واقع الحال الذي تتمرغ الحكومة في دوّامته، واقرب إلى قراءة تفكيرها ونهجها وتوجهها وموقفها من الرأي العام وأماني الناس المجهضة.
يبقى بعد ذلك ضرورة الاعتراف بالمآثر التي أضافتها الحكومة وقادة الكتل البرلمانية إلى رصيد مآثرها منذ استقدامها إلى قيادة السلطة عبر صناديق الانتخاب وإرادة من أصبحوا ضحايا سياستها بعد أن كانوا أولياء نعمتها.. وهذه المآثر تتنوع ميادينها وتأثيراتها والنتائج المترتبة عليها في قادم الأيام والمستقبل، وفي مقدمتها، "الدوس" على الدستور وخرقه بقرار من قادة الكتل، باستحداثهم "السلة الفاسدة" لانتخاب نواب رئيس الجمهورية، وقبلها المرور على انتحال صفة "نائب رئيس" تزويراً.. ومساهمة السلطة التشريعية ورئيسها في فبركة تبرير هذا الخرق الفض، والسابقة اللا دستورية المنافية للمبادئ والقيم الديمقراطية وأخلاقياتها، دون تبرئة السلطة القضائية من هذا الانتهاك الدستوري الذي يدخل التصدي له في صلب مهام سلطة القضاء ومسؤولياته، وحتى من دون حاجة لتنبيه أو دعوى قضائية أو مطالبة سياسية.
ورغم أن هذه المأثرة للأيام المئة تكفي وتفيض، لأنها تعني من وجهة دستورية، إجهاض النظام الديمقراطي وتهديم قاعدته وأساسه الضامن، فان الفترة المضنية كانت حاملة للعديد من المظاهر المخلة والتدابير المتعارضة والمناقضة للديمقراطية ومبادئها الأساسية.
فقد شهدت الفترة المئوية، وهي لم تنته بعد تحويل الجيش من قوة دفاع عن الوطن ورادع للعدوان عليه وضمانة للسيادة والاستقلال الوطني إلى أداة فضة بيد الحكومة وسلطاتها لقمع الاحتجاجات الشعبية وملاحقة المحتجين وتعذيب المعتقلين بنفس أساليب النظام المقهور.. وأصبحت الملاحقات والمداهمات دون مذكرات قضائية، وبصورة كيفية ظاهرة لا تواجه بالإنكار واتخاذ الإجراءات الرادعة للقائمين بها والمنفذين لها.
والمثير للاستغراب والسخرية المرة أن الأجهزة الاستخبارية حديثة العهد، وهي متعددة متوزعة الصلاحيات، تمكنت بكفاءة عالية من التغلغل أو بالمصطلح الأمني "اختراق" صفوف الشباب المناصر "للنظام الديمقراطي" وكشف الناشطين فيه، والعمل على شراء ذمم بعضهم وكسر إرادتهم، وكأن هؤلاء هم "خلايا الإرهاب والتكفير" المطلوب النفاذ إلى تنظيماتها وحماية المواطنين من شرورها وآثامها، وهو ما لم تستطع القيام به، رغم كل الادعاءات والتصريحات، وهذا ما تؤكده عمليات التفجير والتفخيخ والاغتيالات بالكواتم المتواصلة.
إما سائر الشكاوى والمطالب فهي تظل وعداً قابلاً للتأجيل والتسويف مادام التواطؤ بين الكتل وقادتها أداة إدارة شؤون الدولة بعد أن تأكد ذلك باغتيالهم للدستور ووضع إرادتهم فوق مبادئه وقيمه وبديلاً له في البرلمان والقرارات المصيرية.
إن الحكومة وقادة الكتل فوق ذلك كله، لهم (الفضل) في الخروج على رأي مرجعيتهم التي لطالما استخدموها في الانتخابات والمراحل الحرجة التي مروا بها، وادعوا بأفضالها عليهم في وصولهم إلى مواقع السلطة، حين ضربوا عرض الحائط بمطالبتها العلنية بوضع حدٍ للفساد المستشري في الدولة، وإيقاف هدر المال العام والتعدي على حقوق المواطنين، وأخيرا تحديهم لمرجعيتهم التي أعلنت رفضها للسلة الفاسدة لنواب الرئيس، وتقديرها الصائب لعدم جواز المناصب الفائضة في الوزارة والرئاسة وإرهاق الدولة بالرواتب والامتيازات وغيرها من مظاهر نهب المال العام.
وهل بعد هذا من داعٍ لتعداد مآثر المئة يوم التي لم تكتمل بعد، كما هو حال الدولة "الخديجة" التي يسعى البعض لإبقائها لفترة أطول في الحضانة الاصطناعية.!