فخري كريم
(2)
أول ما يتبادر إلى الذهن في معرض جرد ما تحقق من مطالب الناس في المهلة المئوية التي تعهدت الحكومة أن تنجز خلالها ولو اليسير من تلك المطالب..
الحالة الأمنية التي شهدت انتكاسة ملموسة وتوسع ظاهرة الاغتيالات بالكواتم، مع استمرار الادعاء بمحاصرتها والتضييق على الإرهاب بوجه عام. لكن الملفت أن الأمن المتدهور، نسبة للتعهدات بجاهزية القوات المسلحة لتأمين متطلباته، ظل ينتظر حسم الوزارات
المعنية بالأمن والاستقرار وضمان سيادة واستقلال البلاد، وعجزت الأيام المئة عن وضع حدٍ للحراك العبثي بين الكتل البرلمانية وداخل كل كتلة من أجل الاتفاق على إشغال الوزارات بمن ترى فيهم المواصفات المطلوبة لكل وزارة. والأكثر غرابة، كما هو الحال بالنسبة لتكميم الدستور وازدرائه، إن القادة السياسيين الذين تعاهدوا على أن يكون الوزراء الأمنيون بمنأى عن التجاذب الحزبي، مستقلين ولو نسبياً، نسوا في ظل احتداد المناقشات حول المرشحين والخيارات هذا الاشتراط، وانتهوا في نهاية المطاف إلى التراشق داخل الكتلة الواحدة حول استحقاق أي طرف فيها لهذه الوزارة الأمنية أو تلك، وبشأن التعهدات المطلوبة لضمان ولاء الوزير المقترح لمن رشحه وليس لرئيس الكتلة أو محورٍ آخر داخلها.
إن قلق المواطنين من استمرار هذا الفراغ الأمني الناجم عن شغور الوزارات الأمنية، وبقائها تحت سلطة رئيس الوزراء بالإضافة إلى الأجهزة الأمنية الأخرى التي تكاثرت فروعها وصلاحياتها الخفية، غطى على اهتمامهم بالخدمات والفساد وانقطاع الكهرباء والبطالة والمعاناة الأخرى التي اتسعت مجالاتها. فالمواطنون أدركوا بتجربتهم المُعاشة، إن التراشق بالتصريحات والاتهامات والتهديدات، قد يتحول في أي لحظة إلى استعراض قوة وليّ أذرع وبوسائل أخرى من شأن اللجوء إليها أن يؤدي إلى الانزلاق في متاهات لا احد يعرف تداعياتها ونتائجها على مصائرهم.
إن الرهان على الوعد الحكومي في ظل مثل هذه الظروف، التي يشتد فيها الصراع على المواقع والنفوذ، عبر العرقلة المتبادلة والسعي المستتر بين الأطراف المتنافسة داخل الصف الواحد.. محكوم عليه سلفاً بالفشل والنكوص. فلا طرف معني بتحقيق أي منجز حكومي يصب في مصلحة المواطنين، ما دام المتحقق لا يصب في خانته المباشرة ولا يعزز موقعه في مواجهة الآخر، حتى إذا كان حليفه. فكيف يمكن إجراء تحول بالاتجاه الذي يؤدي إلى معالجة الخلل في الأداء الحكومي الخدماتي.. على سبيل المثال، إذا كانت الوزارات الخدمية منوطة بوزراء من أطراف سياسية، قد يفترض البعض أن رئيس الوزراء يرى في وجودهم على رأسها تحديا مزدوجا له وعليهم، ويقابله وزراء الأطراف المنافسة في الاعتقاد بان تبعات فشلهم من شأنه أن يُظهِرَ الحكومة بمظهر العاجز، وهو ما ينعكس حسب منظورهم الفئوي، على رئيس الوزراء نفسه، في حين أن نجاح أي وزارة ستجيَّر لغير صالح كتلهم، وفي الحالتين لا يهتم أي طرف منهما في النتائج السلبية التي يحصدها المواطنون المخيبون.
إن الصراع الدائر في إطار نهج المحاصصة والتوافق الطائفي السياسي، على السلطة ومغانمها، لا يأخذ بنظر الاعتبار النتائج السلبية المترتبة على مصائر المواطنين وحاجاتهم الحياتية وعلى المصالح الوطنية العليا، فالمهم في تقدير المتنافسين السياسيين لمجرى الصراع وانعكاساته الآنية أن تعزز مواقعهم وتستجيب لأغراضهم ونوازعهم، بنفس المستوى الذي تضعف المنافسين وتضيّقُ من مساحة تأثيرهم وتحد من قدرتهم على التأثير.
وما دامت الأمور تسير في هذا الاتجاه الذي تتحكم فيه الأهواء المتناقضة، فان التوقعات بالانفراج وتخفيف الاحتقان مجرد سراب وأوهام.. وان الأوضاع ستظل تدور في حلقة مفرغة لا خلاص منها إلا بكسرها وإنهاء الاعتماد عليها كصيغة لحكم البلاد وأسلوب لإدارة الدولة وتكريس قيم المواطنة ومبادئ الديمقراطية كأساس لها.
إن مشهداً مريباً يكاد يتسلل إلى حياتنا السياسية تحت غطاءات "شرعية" ظاهرها الدفاع عن النظام الديمقراطي ومواجهة التحديات الإرهابية والقوى المضادة، يتغذى على التنافر والتنافس غير المبدئي بين الكتل السياسية، ويستقوي بتواصل النشاط الإرهابي والمظاهر المسلحة غير المرئية، ويتعمق بفعل الهواجس والشكوك التي تخيم على الوضع السياسي، ويتمثل هذا المشهد في توسع المؤسسة العسكرية والاستخبارية، من حيث العدد، وتحويلها إلى أدوات رصد ومتابعة لنشاطات قوى المجتمع المدني والنواتات الشبابية الديمقراطية التي تشكل قاعدة وحاضنة للنظام الديمقراطي وضامنة لترسيخ مبادئه وأسسه. ويجري العمل لخلق بؤرٍ حساسة باسم التوازن المكوني، تنحو في اتجاهات لا تراعي في كل الحالات ما يعكس تجاوزها للانحيازات الفئوية الضيقة.
إن التوسع العددي في قوام القوات المسلحة بكل تشكيلاتها، ترافقه إشاعة مفاهيم لا تعكس العقيدة الوطنية التي يفرضها الدستور والعقد السياسي الجديد الذي يلزم الدولة والسلطة السياسية باعتمادها في إعادة تكوين الجيش والقوات المسلحة والأجهزة الأمنية والمخابراتية، فالعقيدة الدفاعية الوطنية التي تشكل وفقاً للدستور أساس بناء الجيش والقوات المسلحة تحرّم تحزيبها وتحويلها إلى أدوات طائفية وفئوية متناقضة من حيث التوجهات والولاءات، لكن ما يسود في التطبيق العملي خلاف ذلك في أكثر من موقع. وليس خافياً أن مفهوم تحقيق التوازن "المكوني" طائفياً كان أو عرقياً أو غيرهما، جرى تحويره ليصبح توازناً عبر المحاصصة الفاسدة بين الأحزاب والكتل والمحاور الهامشية داخلها، بعيداً عن استحقاق مواطني المكونات من غير المتحزبين أو الموالين للتشكيلات السياسية المهيمنة.
وإذا ما أمعنا النظر في المظاهر التي برزت بوضوح أكثر في مرحلة "مئوية" الحكومة ووعدها المؤجل، فان من بين اخطر المظاهر التي كشفت عنها وأزاحت الستار عن المستور منها، الكفاءة التي عبرت عنها القوات العسكرية التي مكنتها الحكومة من حيث العدد والوسائل في قمع المتظاهرين في احتجاجاتهم السلمية، وملاحقتهم واعتقالهم وتعذيبهم وإخفاء آثارهم ريثما تفرغ من طقوس تعذيبهم وامتهان كراماتهم. وتبين من سير الأحداث والحوادث المروية على لسان المعتقلين وضحايا التعذيب، ممن مروا بأقبية الاعتقال والتعذيب السرية من الزمن الغابر، أن الأدوات الجديدة للملاحقة الأمنية والتعذيبية لا تقل مقدرة عن الأسلاف، بل تحمل ذات التجربة والمهارة بفعل التوارث كما يبدو.
إن المئة يوم التي تكاد تشرف على نهايتها، خلافاً للمزاعم "المغرضة" أظهرت بجلاء أن الحكومة استطاعت أن تغطي فشلها في إلحاق الهزيمة بالإرهابيين وتجفيف منابعهم، بإبراز مهارة أجهزتها الأمنية في كشف بؤر منظمات المجتمع المدني ونشطائها، وتسارع بكفاءة في إجهاض مخططاتها لحشد المتظاهرين، والانتقام منهم بشن غارات خاطفة لاعتقالهم بأساليب جديدة تحرّمها الأعراف الدولية وثوابت حقوق الإنسان، كأن تنفذ عمليات اختطاف للمتظاهرين وتستخدم سيارات الإسعاف في نقلهم إلى معتقلات غير معلومة، ودون اذونات قضائية كما ينص الدستور، ومثلما جرى في حادثة اعتقال النشطاء الشباب الأربعة الذين اختطفوا في واقع الحال وغابت آثارهم حتى كشفت وزارة حقوق الإنسان عن مكان اعتقالهم ثم تراجعت دون أن يعرف السبب.
إن استهداف الشباب ونشطاء الفيس بوك ورصد نشاطهم غير المعادي للنظام الديمقراطي، المضاد لنهج المحاصصة والفساد والتعدي على الحريات، بالأساليب والوسائل المنتهكة للدستور والأعراف الديمقراطية، ظاهرة تتطلب إعادة تقييم الادعاءات بالخيار الديمقراطي وضوابطه مما تدعيه الأوساط الحاكمة ومراكز القرار الحكومي.
وأيّ تحدٍ لروح الشباب ونزوعه نحو تأكيد حريته وإرادته في حياة إنسانية كريمة، سينتهي إلى احد خيارين:
الاستسلام أمام عنفوانه.. أو العزلة والانكفاء والرحيل.