فخري كريم
(5)
كان من الممكن منذ إطلاق الاحتجاجات الأولى، وتفجر الاحتقان والغضب الجماهيري على تدهور الأوضاع الحياتية والأمنية،
أن يبادر رئيس الوزراء إلى تقديم نموذج لسلوك رجل دولة في نظام ديمقراطي، وهذا مجرد افتراض لا تؤكده وقائع الأشهر الأخيرة، فيضع الحقائق بوقائعها المريرة إن كانت كذلك، ويكاشفهم بأسباب عجزه وحكومته عن حل المعضلات التي تواجههما، وما يراه من حلول ومتطلبات،
سواء كانت سياسية أو إمكانات مالية وتشريعية وسواهما.
وإذا تجاوزنا هذا الافتراض الذي لا يقوم على منطق الأحوال التي تُدار فيها الدولة، وما يعتريها من فساد ونهب وتقاسم مغانم، وسوء إدارة، فان المئة يوم التي التزم المالكي أن يعالج خلالها ما يقلق المواطنين، ويحقق ولو جانباً من مطالبهم المشروعة، كانت كافية ليؤكد فيها، انه جاد ومعنيٌ، قدر تعلق الأمر به شخصياً ومن موقعه كمسؤول مطلق الصلاحية كما يتصرف، باتخاذ خطوات ملموسة أولية، على احترامه لإرادة شعبه وناخبيه ومرجعيته، وبإعادة النظر ضمن صلاحياته، بكل ما يتعارض مع هذه الإرادة، أو على الأقل، بإظهار حسن إصغائه للرأي الآخر، وتنازله أمام ما يبدو موضع اعتراض وتذمر من أسلوب إدارته للحكومة والدولة، وهي شكوى قديمة جديدة، حتى أن البعض بادر عشية تشكيل الحكومة في الدورة الانتخابية الأخيرة إلى نحت اسم "المالكي ٢" للتدليل على انه سيهجر الأساليب المعزولة التي اعتمدها في ولايته الأولى، وكانت موضع استياء وسخط وعدم رضا عند غالبية الأطراف والكتل البرلمانية والسياسية. ويعتمد وفقاً لالتزامات محددة بمفهومٍ جديد يرسي أسس التوافق الوطني والمشاركة الحقيقية في رسم سياسة الحكومة وقيادة الدولة بكل مرافقها، ويتخلى عن نزعة الانفراد والهيمنة وتركيز الصلاحيات والسلطات تحت تصرفه.
إن المواطن مهما كان بعيداً عن العمل السياسي المباشر، يستطيع بفطرته التي تعتمد على ما يرتبط بأحوال معيشته، وما يلقاه من سلوك وتعامل في مؤسسات ومرافق الدولة أن يشخص طبيعة الحكومة ورجالاتها، ويحكم على هويتها ونزعاتها ويحدد موقفه منها. والمئة يوم التي مضت بسرعة قياسية، لما ارتبط بها من وعود وما شهدته من تراجعات وانتكاسات في أحوال الناس وأوضاعهم الأمنية والسياسية المتدهورة، لم تعكس ما يهدئ من روع المواطنين وقلقهم ويخفف من الأعباء المرهقة التي تُؤَمِن أوضاعهم الحياتية. وقد شهدت الفترة المضنية المذكورة، المزيد من الإجراءات والتدابير المقيٌّدة لحرياتهم وحقوقهم.
لقد قام السيد المالكي خلافا لما كان عليه أن يقوم به، بإحكام قبضته على أجهزة الأمن والاستخبارات وتوسيع نطاق نشاطاتها، خارج دائرة مكافحة النشاط الإرهابي وملاحقة الفساد والفاسدين الذين يتزايد نفوذهم في الدولة ويعيثون فساداً فيها أمام أنظار الحكومة دون أن تواجههم وتضع حداً لهم.
إن نفوذ وسلطة الأجهزة والدوائر الأمنية برعاية من السيد المالكي، وتحت قيادته آخذة بالاتساع بحيث يُخشى من سطوتها، وقد باتت تستخدم بكفاءة واستفزاز نفس الأساليب التي كانت تمارسها الأجهزة القمعية في ظل النظام السابق، من خطف واعتداء وتعذيب، وتلفيق تهم بالتزوير والتحريض على العنف والإرهاب لكل من يتعرض بالنقد للحكومة وعناصرها النافذة.
إن التورط في اختطاف الشبان الأربعة (علي الجاف، احمد البغدادي، جهاد جليل، مؤيد الطيب) من ساحة التحرير، وما تردد من توجيه ضغوط عليهم ومساومتهم على إطلاق سراحهم مقابل ظهورهم أمام وسائل الإعلام بالافتراء على أنفسهم وزملائهم وتوجيه الاتهام للمحتجين بالتخريب، مسرحية قديمة سوف لن تنطلي سوى على مفبركيها والمتورطين بها.
إن تهمة العثور على هويات مزورة، كما أعلنه السيد الناطق، لا تستدعي تدخل الاستخبارات العسكرية، المعنية بملاحقة الإرهابيين، والقضاء يكتفي في مثل هذه الحالة وان كانت ملفقة، بأخذ إفاداتهم وإطلاق سراحهم بكفالة. لا أن يجري اختطافهم والتعريض بهم وإخفاؤهم لبضعة أيام في موقع امني مجهول، كما لو أنهم مجرمون إرهابيون عتاة، لا كما هم عليه، طلبة نشطاء في حركة الاحتجاج ضد الفساد وسوء الأحوال والتعدي على الحريات.
مرة أخرى أين مجلس القضاء الأعلى..؟
وأين الادعاء العام..؟
وأين قادة الكتل البرلمانية من هذا الانتهاك الخطير للحريات وحقوق المواطنة في المطالبة برفع الحيف عن المعدمين والمظلومين من المدافعين عن النظام الديمقراطي.
إن الكتل السياسية بمختلف مشاربها واتجاهاتها الوطنية مطالبة برفع صوتها ضد ما يجري من تكريس سلطة الأمن والقمع في مواجهة العمل على ترسيخ أسس دولة القانون والمؤسسات وحقوق الإنسان والحريات.
وعلى كل من يحرص على درء المخاطر عن المشروع الوطني الديمقراطي وإبعاد شبح زوار الليل لاقتحام حرمات المواطنين، أن يعبروا عن استنكارهم لهذا التوجه الخطير الذي تصر على إمراره حكومة المالكي في غياب الوزارات والأجهزة الأمنية المستقلة، ويطالبوا بتطهيرها من رجالات الأمن الذين تدربوا في الأجهزة القمعية الصدامية وتسللوا من جديد إلى حياتنا السياسية، وباتوا يحتلون اخطر المراكز والمسؤوليات، وعلى رأس اخطر هذه الأجهزة.
إن صد هذه الموجة والنزوع نحو تغليب القمع بدلاً من الخضوع لإرادة الشعب بالوسائل السياسية الديمقراطية، طريقٌ معبدٌ بالنوايا العدوانية التي لا جامع لها مع الديمقراطية.