TOP

جريدة المدى > المنتدى العام > عصر الفيسبوك واللغة الأم

عصر الفيسبوك واللغة الأم

نشر في: 8 يونيو, 2011: 05:28 م

سلوى الجراح اللغة الأم تعبير شائع في كل لغات العالم، يجعل اللغة التي ننشأ عليها استمراراً لأمومة الرحم الذي ولدنا منه.  فكل الشعوب حول العالم تعتز بلغاتها الأم، وتحفظ الكثير من آدابها، وتباهي بتراثها وأبطالها، وتردد ملاحمها.  نحن العرب نكاد لا نناقش امراً مهماً دون أن نستشهد ببضعة أبيات من الشعر، قديمه وحديثه والعراقيون بالذات يضيفون إلى تراثهم الشعري سطرين من الدارمي الشهير.
أما الإنكليز الذين أعيش بينهم منذ أكثر من ثلاثين عاماً والذين يملكون تراثاً أدبياً يمتد من العصور الوسطى فهم أيضاً يباهون بشعرائهم وأدبائهم بل إن ملحمتهم اليتيمة بيولف Beowulf رغم أن بطلها الذي يحمل اسمها، من إسكندنافيا، وليس فيه قطرة دم إنكليزية، يعتبرونها من أهم تراثهم الأدبي ويقدمونها على مسارحهم ويدخلونها ضمن نتاجهم السينمائي.  أذكر في أول أيام إنضمامي للعمل في هيئة الإذاعة البريطانية في لندن، أني التحقت بدورة تدريبية كانت تضم منتسبين من أقسام أخرى، فمبنى الإذاعة كان في سبعينيات القرن الماضي، يضم سبعة وثلاثين لغة مختلفة.  اللغات الأوربية، واللغات الشرقية، الفارسية والهندية والبشتية ولغات دول أوربا الشرقية وعلى رأسها اللغة الروسية، وطبعاً العربية، القسم العربي العتيد، الذي كان أكبر تلك الأقسام ويحتل موظفوه كل غرف الطابق الرابع في المبنى الأوسط في بوش هاوس مبنى الإذاعات الموجهة في هيئة الإذاعة البريطانية. في أول أيام تلك الدورة التدريبية، دخل أحد المحاضرين، رجل إنكليزي ابن إنكليزي، وراح يتحدث عن هيئة الإذاعة البريطانية وأقسامها باللغات المختلفة واصفاً إياها بأنها لغات "محكية" مستعيناً في وصف ذلك بتعبير أدبي vernacular وهو وصف تعلمته خلال الدراسة الجامعية في الحديث عن دانتي شاعر إيطاليا الشهير الذي كتب "الكوميديا الإلهية" باللغة الدارجة الإيطالية وليس باللاتينية لانه أراد أن يقرأ عمله الناس العاديون وأصبح بذلك أول من كتب عملاً أدبياً عظيماً باللغة المحكية الايطالية، وليس باللاتينية اللغة الرسمية للكنيسة آنذاك وهي لغة، أي اللاتينية، لا تمت بصلة لأحاديث الناس اليومية في الشارع، لذلك استحق دانتي أن يكون الأب الشرعي للغة الايطالية.  جلست أستمع إليه بهدوء، فقد كنت ما زلت حديثة العهد بالعمل الإذاعي وبدوراته التدريبية.  ثم قررت أن أعبر عن ذاتي، رفعت يدي وسالت بكل أدب: "هل معنى ذلك أن كل اللغات القديمة، العربية والفارسية والهندية لغات محكيةvernacular  إذاً ما هي اللغة التي تحتل مكانة اللاتينية في هذا الزمان"؟  نظر إلي الرجل باستغراب شديد وببرود إنكليزي بحت، وقال بكل ثقة :"الانكليزية طبعا".  الانكليزية؟  اللغة الإنكليزية كما نعرفها اليوم لم تتطور إلا بعد الغزو النورماندي لانكلترا عام 1066 عندما دخل وليام الفاتح إنكلترا، أي في النصف الثاني من القرن الحادي عشر، أي بعد أن ألف العرب معاجمهم اللغوية ووضع النحاة العرب كل القواعد الدقيقة المحكمة للغة العربية، وتراكمت المدارس الشعرية العربية من المعلقات حتى الموشحات الأندلسية، وكتب ابن خلدون دراسته ووضع ابن حزم قواعد الحب، ومع ذلك تقول إنها لغة محكية.  أقول لكم الحق ملأني الرجل غيضاً وزاد من غيضي أنه لم يُعر إعتراضي أي أهمية.  فكلمة محكية هي الصفة التي يطلقونها على اللغات السبع والثلاثين في مبنى بوش هاوس لا على اللغة العربية فحسب، بل والفارسية والهندية رغم أنف طاغور وعمر الخيام.  حادثة تداعت لخاطري وأنا أرى ما يحدث اليوم للغة العربية، فالجيل الجديد لا يهتم بلغته الأم ولا يعيرها أي أهمية.  معظمهم يرطن باللغات الأجنبية ولا يهمه أبداً معرفته بهذه اللغة البالية، العربية، يكفي أن يحسن كتابة المنطوق منها بالحروف اللاتينية ويبعث الرسائل على الفيس بوك، أما أن يعرف لغته وآدابها فلم يعد مهماً ولا يناسب فكرة التحضر.  حتى المناهج المدرسية لم تعد تهتم بذلك، والتبرير الذي يطرحه الكثيرون هو ما فائدة أن يطلع الطلاب على الشعر الجاهلي أو يعرفوا شيئاً عن طيب الذكر، أبي الطيب المتنبي الذي تلفظت اسمه إحدى المذيعات بقولها "إلمتينبي" ووضعت الاسم في جملة مفيدة وسألت ضيفها: "ما هو رأيك بالشاعر إلمتينبي "؟  كيف إذاً يستطيع الجيل الجديد أن يفهم لغته الأم ويعطيها حق قدرها إن لم يطلع على آدابها ويستوعبها بكل أشكالها، من شعر ورواية ومقالة.  أنا لا أنكر أننا قرأنا في المدارس أيام زمان، الكثير من الشعر الذي لم نفهمه أو نستذوقه وأحياناً لم نحسن نطق كلماته، ولكني كنت أتوقع أن تتطور الكتب المدرسية وتواكب العصر ويستعاض عن المعقد بالسهل الواضح كي تزداد رغبة الطالب بالمعرفة عن تراثه اللغوي.  لكن ما حدث في واقع الأمر هو أن الكتب المدرسية لم تعد تقدم للطالب شيئاً ذا قيمة عن لغته وآدابها.  هي نتف صغيرة عليه أن يحفظها ليتجاوز الامتحان ثم يطويها النسيان إلى الأبد.  فرنسا التي كانت طوال تاريخها الاستعماري تهدف إلى إشاعة لغتها بين سكان مستعمراتها، تشعر يأنها مهددة باتساع انتشار اللغة الإنكليزية، بعد أن دخلت

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

كاريكاتير

كاريكاتير

ميثم راضيميثم راضي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram