كامل داود في قول لأحد فلاسفة التنوير يذكر فيه ان معاناة الانسان بدأت عندما حدد قطعة من الارض وقال هذه ملكي ،ونحن إذ نسوق هذا القول لا نريد ان ننحى بالبحث منحى قد يوهم الى ما لا نريد ، وانما الغرض من ذلك تتبع السلطة بمفهومها الشائع وهو امتلاك المقدرة على ارغام الآخرين، فمنذ فجر التاريخ أدرك الإنسان بفطرته وبغريزة حب البقاء وحفظ النوع ،ان حياته الجماعية لا بد لها من نظام من نوع ما لكي يواجه تحديات الطبيعة وفك ألغازها وطلاسمها المخيفة والمحيرة .
والحالة هذه لا بد من أن يبرز من بين تلك الجماعات من يستطيع او يدعي انه يستطيع ان يفك تلك الاسرار ويجابه ما يعتريهم من تحديات مختلفة من قوى الطبيعة وجبروتها ،ولايعدم ان يحظى بولاء البعض من هذه الجماعات في سبيل ان يحقق لهم ما ينشدونه من أمن في صراعهم المركب ضد الطبيعة والجماعات البشرية الاخرى ، وكان لهؤلاء ان يتميزوا على غيرهم وان تطاع اوامرهم ومن حقهم ان يمتلكوا ما تنازل عنه الآخرون من حريتهم متبلورا في المقدرة على الارغام ،ومن هنا برزت تلك الظاهرة الخطيرة ،ظاهرة السلطة، فهي خطيرة بقدر ما هي اساسية في حياة الجماعات الانسانية. ولو أمعنا النظر في نشوء ظاهرة السلطة نرى انها لا تعدو إلا وجهين اثنين ليس إلا ،الوجه الأول رغبة الجماعات الانسانية في العيش الآمن ، والوجه الثاني ادعاء البعض بأنهم يمتلكون المقدرة على توفيره . وقد أدى تطور أنماط المعيشة لبني الانسان خلال الزمن الطويل ، ونتيجة لعوامل كثيرة ومتشابكة الى بروز ظاهرة السلطة والتي مازالت قائمة وان كان قد نالها من التطور الشيء الكثير وان تلك الجماعات ن اجل الوصول الى مبتغاه في افضل منهج يكفل له تحقيق رغباته الأزلية في العيش الآمن،ومضت الشعوب لتحقيق اهدافها في سلطة تكون ملك الدولة وان الحاكم يمارس السلطة ولا يمتلكها وان الحكومة في ممارستها للسلطة انما تمثل الدولة التي شيدتها تلك الشعوب . ولطالما أغفل الحاكمون او تغافلوا ذلك العقد في خضم مغريات السلطة ونشوة التربع على كرسي الحكم ، وهم يدركون تمام الادراك ان حكومتهم مهما بلغت من القوة والاستبداد ، فإنها لا تستطيع ان تصمد إلا بموافقة المحكومين وتأييدهم ، لذا فإن الحاكم يسعى الى هذا التأييد ويحرص لنيله وان ألجأه الحال الى البطش والتخويف المفرط ، ولكن اللحظة التي ينزع المحكومون فيها جلباب الخوف هي نفس اللحظة التي تأذن بزوال طغيان الحكومة. إذن نحن هنا أمام إشكالية حقيقية ،قوامها الحاكم والمحكوم بكل تفاصيلهما التاريخية ،حاكم تحركه رغبة التفرد بالسلطة ومحكوم ما أن يتنفس الصعداء بعد زوال الحاكم حتى ينسى او يتعمد نسيان تلك الايام السود التي عاشها في كنف الحاكم متوهما أنها لن تتكرر ثانية وقد ولت الى غير رجعة ، ولنا ان نخلص من هذا بالقول ان سوء الحكم والاستبداد لا يكفي وحده للثورة عليه مالم يصحبه إدراك وإحساس بالظلم ، بل ذلك لا يكفي من دون الرغبة في التخلص من نير الظلم ،ولا بد لتلك الرغبة من التمظهر بأسلوب او اكثر من اساليب الاحتجاج على السلطة.ثقافة الاحتجاج تختلف أساليب الاحتجاج على السلطة باختلاف ثقافات الشعوب ومخيالها الجمعي المتراكم عبر تجاربها التاريخية في تعاطي أنظمة الحكم ، ومن المؤكد ان الاستبداد هو"فعل"وما دام كذلك فلا بد له من "رد فعل" ، او هو تحدّ واستجابة كما يرى" ارنولد توينبي" ولكن تباين ردود الافعال والاستجابات يحددها طرفان ،الحاكم والمحكوم ، وهما وليدا ثقافة واحدة تقريبا ، فلو اخذنا مثالا من ربيع الاحتجاجات العربية وتحديدا الانتفاضتين المصرية والليبية،لرأينا الاختلاف البنيوي واضحاً بين مساريهما ، سواء بسلوك الحاكمين تجاه المحكومين او العكس، على الرغم من ان التجربتين قد ولدتا من أصول ابستومولوجية واحدة ،ففي الحالة المصرية شباب يقود النخب نحو التغيير باحتجاج سلمي ضد (مستبد حداثوي) ،وفي ليبيا نخب تقود الشباب بأحتجاج مسلح ضد (مستبد قروسطي )، ولعل مرد ذلك الى ما اُشيرَ اليه من تباين بين ثقافتي البلدين .ومن هنا تعددت طرائق الاحتجاج في تاريخ الشعوب و الدول متذبذبة بين العنف واللاعنف ، ولعلنا لا نجانب الصواب في القول إن ثقافتنا العربية الاسلامية نحت في اغلبها المنحى الاول وبامتياز ،وقد آن لنا الإقرار بأن رصيدنا التاريخي يقترب من إشهار إفلاسه من الاحتجاج السلمي للحكام والمحكومين على حد سواء . فقد تدرجت مفاهيم الاحتجاج في مسمياتها من غير ان تفقد رائحة الدماء ، فهي إما "رِدّة أو خروج او فتنة "حتى أنقذتنا الحداثة بإصطلاح "المؤامرة" ليسِمَ كل من سولت له نفسه بالخروج على السلطان . ولو بحثنا عن الدلالة المعجمية لأصل مفردة الاحتجاج لوجدناه (في لسان العرب لإبن منظور) مأخوذة من الفعل الثلاثي "حجج" (( و الحَجُّ: القصدُ. حَجَّ إِلينا فلانٌ أَي قَدِمَ؛. والحجُّ قَصْدُ التَّوَجُّه إِلى البيت(الحرام) بالأَعمال المشروعة فرضاً وسنَّة؛ تقول: حَجَجْتُ البيتَ أَحُجُّه حَجّاً إذا قصدته،ويقال للرجل الكثير الحجِّ: إِنه لحَجَّاجٌ، واحْتَجَّ البَيْتَ: كحَجَّه عن الهجري؛ وأَنشد:تَرَكْتُ احْتِجاجَ البَيْتِ، حتى تَظَاهَرَتْ عليَّ ذُنُوبٌ، بَعْدَهُنَّ ذُن
إشكالية الاحتجاج والحكومات المنتخبة
نشر في: 10 يوليو, 2011: 07:26 م