فريدة النقاشانقضت قبل أيام خمس سنوات علي رحيل المحامي المناضل الشيوعي «أحمد نبيل الهلالي»، ورغم هذه السنين ماتزال سيرته وخبرة حياته ومآثره والقيم العليا التي وهب عمره لها تلهم الآلاف من أبناء الأجيال الجديدة، هؤلاء الذين أوقدوا شرارة ثورة 25 يناير المجيدة، وبعضهم كان «الهلالي» قد دافع عنه أمام المحاكم كمتهمين في عشرات الحركات الاحتجاجية من وقفات واعتصامات وإضرابات شهدتها البلاد بالآلاف وفي السنوات العشر الأخيرة قبل الثورة.
ورغم أن «الهلالي» كان قد غادر عالمنا حين اندلعت الثورة فإن بصماته وأنفاسه كانت هناك، فهو القدوة والمثل الأعلى الذي ألهم الأجيال وضرب لهم المثل في إنكار الذات واختيار الطريق الأصعب ولكنه الأصوب من وجهة نظره نحو تحقيق أهداف الثورة وهو الذي قال «لن تستطيع قوة على وجه الأرض أن تدفع بالاشتراكية خارج التاريخ».فهو كان يدرك أن الاشتراكية التي رفع راياتها عاليا قد أصبحت في عصرنا الراهن، وبالنسبة لبلد فرض عليه التخلف قرونا طويلة هي التعبير الأكثر عقلانية وتماسكا وفعالية عن أرقى وأشمل درجات الوطنية، ومن هنا امتزج عنده بشكل دائم النضال من أجل الاشتراكية بالنضال ضد السيطرة الأجنبية ومؤثراتها السلبية، كما يقول الدكتور فوزي منصور.انحدر نبيل الهلالي من أسرة بورجوازية شديدة الثراء، وكانت أولى خطوات رحلته على طريق النضال الاشتراكي هي رؤيته الواقعية للانقسام الطبقي الحاد في المجتمع.. يقول «لعل انتمائي لأسرة بورجوازية هو الذي أتاح لي فرصة مشاهدة المطبخ الداخلي للمجتمع الرأسمالي، واكتشفت من خلال هذه المشاهدة ومنذ الصغر الوجه الصحيح الكالح القبيح للرأسمالية».ويحكى أنه في صباه دخل محل حلواني شهير في وسط القاهرة لأتزود بما لذ وطاب من الحلوى والجاتوهات «ولما هممت بالخروج من المحل صدمني مشهد مأساوي لم أنسه ولن أنساه مادمت على قيد الحياة، حفنة من أطفال الشوارع المشردين يتزاحمون ويتدافعون أمام فاترينة المحل ليلحسوا بألسنتهم اللوح الزجاجي الذي يفصلهم عن معروضات يسيل لها اللعاب.وكان سؤاله الأول: لماذا هذه الفجوة الهائلة بين فقر الفقراء وثراء الأثرياء؟بدأ انتماؤه للاشتراكية إذن بشعلة في القلب قبل أن تدله المعرفة والعقل على طريق الماركسية «فتحولت النزعة الإنسانية في نفسي إلى موقف واع ومعاد للاستغلالية الرأسمالية».وعرف مثله مثل آلاف الشيوعيين المصريين طريق المعتقلات والتعذيب في السجون والملاحقة، وأخذ ينظر بألم إلى هؤلاء الذين ما أن سقط المعسكر الاشتراكي من بين من كانوا رفاقا في السابق وهم يقفزون إلى الشاطئ الآخر وكأنهم يعتذرون عن تاريخهم ويقدمون أنفسهم للبورجوازية لعلها تقبل بهم بين صفوفها.وقدم «الهلالي» مجموعة من الكتابات المهمة والأحاديث الصحفية المطولة لا فحسب ليرد الاعتبار للماركسية التي جرى تشويهها والسخرية منها وإنما أيضا ليساعد الأجيال الجديدة من المناضلين على استيعاب وتحليل حركة التاريخ الإنساني بما فيها من مد وجزر وانتصارات وهزائم «فالماركسية في نظري ليست نصوصا متدنسة جامدة بل نظرية حية متجددة، وهي لا باخت ولا خابت ولا شاخت ولا ماتت، الشيوعيون هم الذين يخطئون ويشيخون ويموتون، أما الماركسية فهي نظرية قادرة على تحديد وإثراء نفسها وتصويب أخطائها..» ولعلنا نذكر في هذا الصدد أن النظام الرأسمالي الذي لم يدع أبدا لإلغاء الاستغلال كما دعت الاشتراكية له من العمر خمسة قرون وما يزال ليدخل في الأزمة تلو الأخرى.ويستشهد نبيل بالفيلسوف الفرنسي الوجودي جان بول سارتر الذي قال «إن الماركسية غير قابلة للتجاوز لأن الظروف التي ولدتها لم يتم تجاوزها بعد» ذلك أن الماركسية هي فلسفة الكادحين الذين يمثلون غالبية البشرية.ولم يعش «الهلالي» ليشهد انتصار أحزاب وانتخاب رؤساء في أمريكا اللاتينية جاءوا من منابع الماركسية كل على طريقته ليضعوا بلادهم على طريق التقدم الشامل مستهدفين إلغاء الاستغلال في خاتمة المطاف.وكانت واحدة من مآثر «نبيل الهلالي» الكثيرة وهو دفاعه ومرافعاته التي هي جزء أصيل من تاريخ مهنة المحاماة عن خصومه السياسيين من الإخوان المسلمين والجماعات الدينية لأنه رأى بشكل ثاقب وببوصلته التي لا تخطئ أن هناك موقفا مبدئيا واحدا وأصيلا هوالدفاع عن حقوق كل إنسان أيا كانت عقيدته الوطنية أو اعتقاده السياسي أو منطلقه الأيديولوجية.ومع ذلك ولأن الإخوان المسلمين والجماعات الدينية عامة هو إقصائيون يعملون بمنطق من ليس معنا فهو ضدنا تكتلوا ضده في انتخابات نقابة المحامين التي كان الهلالي عضوا في مجلسها لدورات متتالية وأسقطوه.لن ينساك الشرفاء أبدا يا نبيل ولن يملك حتى أعداؤك إلا الانحناء أمام صلابتك وتكاملك الإنساني الفريد.
«الهلالي».. الميّت الحي
نشر في: 12 يوليو, 2011: 08:02 م