فخري كريم
بعد "الشعار الوطني" الذي تسلل من خلاله السيد أسامة النجيفي إلى رئاسة البرلمان العراقي في دورته الأخيرة المولودة قيصرياً،
وأقسم من خلاله على تجسيد إرادة العراقيين جميعاً والدفاع عن حياض وطنهم، عاد ليكشف المستور من عصبيته النافذة، كطائفيٍ بامتياز بلا طائفة ساندةٍ أو متعاطفة.
وقد تناول النجيفي بأسلوب ملتوٍ ما سمّاه "مظلومية" السنة العرب وشعورهم بالتهميش والإقصاء، وتراجع موقعهم في وطنهم إلى سلّم "المواطنة الثانية"!،
مما قد يدفعهم، حسب النجيفي، إلى خيار إعلان "فيدرالية سنية" وما قد يتبعها من خيار الانفصال..! إن الفيدرالية غدت حقاً دستورياً لا مراء فيه، ولا اعتراض عليه، وقد وضع الدستور شروط إقامتها، ولا احد يعلو على الدستور، ولو نظرياً، مع أن هذا الدستور ينتهك كل يومٍ من قبل قادة البلاد وكتلهم البرلمانية دون وازعٍ أو خشية من رادع.
يؤكد الدستور في ديباجته على تحريم أي نزوعٍ سياسيٍ طائفيٍ، مثلما يحّرم البعث والتمييز تحت أي لافتةٍ أو شعار أو ادعاءٍ آخر، حيث أن المواطنة المتساوية في كل الميادين في العراق الديمقراطي، إذا ما احترم القادة دستور البلاد، حقٌ مكفولٌ لا يقبل التطاول، ورئيس البرلمان معنيٌ قبل غيره من المسؤولين في الحفاظ على هذا الحق الدستوري المقدس ومتابعة من يتجرأ على تجاوز استحقاقاته، ودوره حاسمٌ، خصوصاً إذا تعالى على عصبياته القومية والطائفية والعرقية، وتصرف كمسؤول عراقي يحمل همَّ وتطلعات جميع العراقيين دون استثناء. وواضحٌ أن النجيفي، كما هم عليه قادة الكتل الأخرى، يرون في تمثيلهم الأضيق أقوى وأفيد من تمثيل المواطنة عابرة المذاهب والأعراق والطوائف، بل يضيق بهم التمثيل حد تحزّباتهم وفئويتهم داخل الطوائف والمذاهب والعصبيات المستشرية في الحياة السياسية.
إن من أولى الفروض "المهنية" لرئيس البرلمان، درايته المعمقة بالدستور، وقدرته على قراءة أحكامه من كل أوجهها، وتبيان جوهره حين يستعصي على البعض أو الكل فهمُ هذا الجوهر وأبعاده وتأثيراته على سير الأمور ومصالح الأمة وتضارب المصالح بين مختلف القوى المتصارعة على حساب الدستور والمصالح الوطنية العليا. ولكي يكون رئيس البرلمان بمستوى تمثيل الأمة، وهو على رأس السلطة التشريعية، عليه أن يتعالى أولاً على انتمائه الفرعي، ويلوذ بالعراق الذي اقسم على حمايته والدفاع عنه مستنداً إلى الدستور وإرادة الشعب.
لقد انطلق النجيفي في الحديث عن الحالة السنية العربية، من موضوعة بالغة الخطورة، مثيرة الأوجاع والشعور بالمظلومية التاريخية لدى الغالبية العظمى من العراقيين، وهم يشكلون الأكثرية في العراق، إذ قال بلا تحفظ إن العرب السنة، الذين لم يحصل منهم على تفويض، باتوا يشعرون بالتهميش والإقصاء، ويعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية، وهذه الظاهرة إذا ما استمرت، كما قال النجيفي، ستدفعهم إلى خيار إعلان فيدرالية سنية، وهذا بدوره قد يقودهم إلى خيار الانفصال عن العراق..!
والنجيفي بمنطلقه الطائفي الخطير هذا، لتبرير إقامة الفيدرالية وضع نفسه، إذا ما سلمت نوايا قادة الكتل، تحت المساءلة القانونية، لأنه حنث بقسمه لحفظ وصون الدستور مرة جديدة، بعد ما فعله بتمرير السلة الفاسدة في انتخاب نواب رئيس الجمهورية، وإمرار التصويت على طارق الهاشمي في السلة ذاتها، متجاوزاً الملاحقة القضائية ضد الهاشمي، لان الفيدرالية كحق تمارس لاعتباراتٍ قومية أو جغرافية أو ترابطهما معاً سياسياً. كما أن النجيفي تجاوز في معالجته لهذه القضية الإشكالية، موقعه السياسي كممثل لكل العراقيين، بصفته رئيساً للبرلمان.
ولكن الأخطر في ذلك كله، تمريره لمفهومٍ يلحق أفدح الأضرار بالمكون العربي السني حين يحمّل هذا المكوّن مسؤولية حكمٍ جائرٍ تسلط على مقدرات البلاد بالبطش والقوة، طوال عقودٍ، كما لو أن ذلك الحكم كان بذلك يجسد إرادة مكونٍ عراقي، يشكل أقلية سكانية في العراق وما يتبع ذلك من كبائر ارتكبت طوال تلك العقود ضد الشيعة والكرد والتركمان والمكونات الأخرى، وهم أكثرية مطلقة في العراق. والنجيفي يتناسى العواقب السياسية لفعلته المنافية للدستور ومصالح الشعب، إذ يثير في أذهان هذه المكونات، تساؤلاتٍ مريرة وتداعياتٍ مؤسية حول المصائر المفجعة التي عاشوها طوال تحكّم فئة صغيرةٍ، هُمشوا في ظل سلطتها المطلقة الاستبدادية، وتجرعوا مرارات التمييز والتصفية على الهوية بصمت في الغالب، دون أن يخطر لهم أي هاجس للمطالبة بـ"الفيدرالية" التي تقود إلى الانفصال، فهل كان على الشيعة، حسب عقيدة النجيفي وزملائه الميامين من المتربعين على كراسي الحكم، أن يعلنوا مطالبتهم بالفيدرالية ثم الانفصال منذ تأسيس الدولة العراقية، وهم لم يكونوا مهمشين مقصيين فحسب، بل كانوا أيضا ممنوعين من ممارسة طقوسهم المذهبية، بل وأكثر من ذلك.
أما الكرد، هذه الأمة المجزأة بالكراهة والقسر والإمعان في البطش الوحشي في دولٍ عربية وإقليمية، على خارطة مس بيل سيئة الصيت، فكان عليهم –تساوقاً مع عقيدة النجيفي المعلن عنها أخيرا- أن يقلبوا الدنيا على مضطهديهم ويعلنوا دولتهم القومية وهو حق لا ينازعون فيه في إطار مبدأ حق تقرير المصير. وكان عليهم أيضاً أن يتبنوا صراحةً شعار الانفصال، وان يوجهوا نضالاتهم المسلحة لا ضد الأنظمة الدكتاتورية المستبدة فحسب، بل ضد الأوباش القومانيين الذين كانوا ينظرون لتلك الأنظمة، وخاصة نظام صدام حسين، لا أن يحرصوا، كما فعلوا منذ البداية حتى الآن على ربط النضال في سبيل أهدافهم ومطامحهم القومية بالديمقراطية للعراق!. وكرد العراق كما يعرف النجيفي، لم يهمشوا أو يجري إقصاؤهم فحسب، بل قصفوا بالكيمياوي واستهدفوا بالأنفال وأخفيت آثارهم بالمقابر الجماعية التي شكك بصدقيتها القادة القومجية. فماذا كان يحق للكرد أن يفعلوه وفقاً لمنطلقات النجيفي؟
وقد نسي النجيفي وهو يعود متصاغراً حتى الدائرة الضيقة من انتمائه المديني، انه كان من بين الأكثر عدوانية للشعب الكردي حتى الأمس القريب، ويتمادى في تهديده لهم بأوخم العواقب، إذا ما استعادت الزمر القومانية التي تحتل مواقع سيادية اليوم قوة بطشها القديم، وتعيد الكرد الى المربع الأول أيام حكم المستبد صدام حسين قبل أن يتقزم بعد عام ١٩٩١. وهل نسي ما فعله هو والسيد صالح المطلك والعليان والآخرون وهم يوجهون الاتهام للكرد بالتحفز للانفصال، لأنهم كانوا يؤكدون على احترام الدستور في تطبيقاته الفيدرالية.؟
والملفت أن النجيفي يكاد ينسى السلوك السياسي غير المنسجم مع الديمقراطية وقيم المواطنة ومبادئ المساواة بينهم في إمارة شقيقه، وهو يتمادى في حرمان قائمة التآخي من حقها في أن تتسنم المواقع التي يؤهلها لها استحقاقها الانتخابي، ويصر على الانفراد في حكم محافظة نينوى.
أما موقف النجيفي و "باقة" القومجية من يتامى صدام وساجدة، من التعريب والتبعيث الذي انتهجه النظام الساقط في كركوك والمحافظات الأخرى وحرصهم على الإبقاء على نتائجها كما خلفها البعث، فواقع معاشٌ لا يقبل النكران.
إن ادعاء النجيفي بتعبيره عن هواجس العرب السنة، إنما هو تلفيق سياسي بامتياز، رد عليه قادة معروفون في الوسط السني، أدانوا دعواته واتهموه بمصادرة إرادة السنة.
وهذه ليست المرة الأولى التي يدعي فيها قادة العراقية بتمثيلهم للعرب السنة، مع دعاواهم باللاطائفية، إذ أن كل ممارساتهم وتوجهاتهم ومطالباتهم تنصب على مطالبة لا تخرج عن الدفاع عن البعث وبقايا النظام السابق، سواء عند تصديهم لتطبيق المصالحة الوطنية او التوازن الوطني والمشاركة الوطنية او المطالبة بإلغاء الاجتثاث والمساءلة والعدالة، فهل هم يمثلون بهذه الدعاوى والمطالبات العرب السنة.؟ وهل ستظل العراقية والدكتور إياد علاوي يستمرون بالتأكيد على أن قائمتهم، مشروعٌ وطنيٌ لا طائفي..؟
سؤال لطالما طرحته دون جواب..
أما رد الفعل غير السياسي للسيد رئيس الوزراء المضاد، ولو "كلامياً" أو "زلة لسان"
فهو بكل الاعتبارات منافٍ للدستور لا يجوز أن يتكرر. فما ينص عليه الدستور ليس ملهاةً لأحد مهما كان موقعه السيادي في الدولة، لان كل هؤلاء المسؤولين في المحصلة النهائية مجرد موظفين سيغادرون كراسيهم، مهما استبدت بهم الأوهام.