عبد الخالق كيطانيمكن لرجل الدين، لو أراد، في لحظة البلاد المعاصرة أن يمنع بخطبة واحدة مجزرة مستمرة فصولها في غير مكان من أجزاء وطننا، مجزرة ترتكب يومياً بحق غابات النخيل التي يبرع الديني، كعادته، في اعتبارها أكثر من مجرد رمز وطني.
أما الصحفيون والكتاب فالنخلة بالنسبة لهم تمثل وطناً بمعنى من المعاني. وهؤلاء، في الأعم الأغلب، بلا حول ولا قوة. كلمتهم لا تصل إلى أبعد من بضعة قراء لا يملكون غير التعاطف الصامت مع ما يكتب، ولكن المجزرة مستمرة ولا تكفي الإشارة إليها، بل العمل على إيقافها.يلومون نظام صدام حسين عندما شن حملة قاسية ضد غابات النخيل أيام الحرب مع إيران، وبعدها عندما قص رؤوس النخيل العالية وهو يتعقب المنتفضين في العام 1991. وهو لوم ينبغي توثيقه في كتاب لما لهذه الجريمة من مغزى، ومن نتائج. ويلومون الطبيعة لأنها تسلط علينا عواصف من التراب تنهك ربات البيوت في تنظيف مستمر مثلما تنقل تلك العواصف عدداً كبيراً من المواطنين إلى المستشفيات بحثاً عن قنينة أوكسجين. يموت آخرون وهم يستنشقون هواءً ملوثاً. وتدخل إلى البيوت قوافل من الأتربة التي ستظل آثارها تؤرق الناس يوماً بعد يوم. ويلومون الفلاح الذي يبيع أرضه، سيان والإقطاعي الذي اضطرته الظروف في مرحلة سابقة على ترك أملاكه والهجرة نحو المدينة ببضعة دنانير كانت سنده، وسلطته قبل ذلك. يلومون الفلاح الذي هجر أرضه ورضي أن يعمل "فراشاً" أو "شرطياً" في هذه الدائرة أو تلك، فيما أشجار النخيل تحترق أو تهرم أو تذبل دون أن تجد يداً حانية تمسد عليها. ولكن ماذا يفعل الفلاح؟ ويلومون العراق لأنه لم يعد بلد النخيل، ولم يعد كذلك مشهوراً بالتمور التي كانت... دخلت سوق التمور اليوم دول كانت تصنف بوصفها صحراوية، وها هي اليوم تنتج وتصدر أجود أنواع التمور. لديهم نخب تخطط، ولديهم مال ينفذ.. والمشكلة أن العراق يمتلك الاثنين ولكن الذي بينهما يغيب تماماً، وأقصد الإدارة، والإرادة.في الحلة يقيمون شارعاً بين منطقتين، وثمن الشارع غابات نخيل مذبوحة. نتفهم، ويتفهم المشمولة أراضيهم بالتجريف، الحاجة إلى شارع جديد، ولكن غير المفهوم أن تعمد الجهات ذات العلاقة، والشركة المنفذة للمشروع، إلى اقتلاع أشجار النخيل من جذورها، ومن ثم حرقها ودفنها. السؤال البديهي الذي لا يحتاج عبقرية لكي يطرح هو: لماذا لا تنقل تلك الأشجار المقتلعة لتزرع في أماكن أخرى أكثر حاجة للنخيل من مكانها الأم الذي يتحول إلى شارع؟ وفي غير الحلة: البصرة والناصرية وبغداد تقسم أراض زراعية تضم عشرات الآلاف من أشجار النخيل وتباع على شكل قطع أراض سكنية. فالبلاد في أزمة سكن خانقة، وحلول الدولة على هذا الطريق طويلة وبعيدة المدى، وما يلمسه المواطن على أرض الواقع ليس أكثر من وعود. الحل في مثل هذه الحال أن يعمد المواطنون أنفسهم إلى حل مشكلاتهم بأنفسهم ولو تطلب الأمر القضاء على رأسمالنا الرمزي الذي تمثله النخلة.أنا، ومن هم على شاكلتي، يمنون النفس بأن تتحول النخلة إلى رمز وطني. رمز على أرض الواقع وليس في متون المدونات، فتسن القوانين لحمايتها، ويعاقب من يحاول اقتلاعها بأقسى العقوبات. فالدول التي تشرع قوانين قاسية لمن يصطاد في البر أو في البحر عشوائياً، أو تلك التي عدت حيوانات معينة خطاً أحمر، ينبغي أن تكون قدوتنا إذا كنا لا نكف ولا نخجل من تكرار القول بأننا أمة متحضرة جذورنا تمتد إلى آلاف السنين... وهلم جرا.rn
عين: ومن بعد النخلة؟
![](/wp-content/uploads/2024/01/bgdefualt.jpg)
نشر في: 22 يوليو, 2011: 08:34 م